قراءة في ديوان "سفر الخروج" للشاعر محمد فكري محمد فكري بقلم/ جابر الزهيري
قراءة في ديوان "سفر الخروج" للشاعر محمد فكري محمد فكري بقلم/ جابر الزهيري

قراءة في ديوان “سفر الخروج” للشاعر محمد فكري محمد فكري بقلم/ جابر الزهيري

فنيات التوظيف الدرامي في النص الشعري
سفر الخروج كترجمة ذاتية للشاعر
قراءة في ديوان “سفر الخروج” للشاعر محمد فكري محمد فكري
بقلم/ جابر الزهيري
عضو اتحاد كتاب مصر

ترتبط ألوان التعبير الأدبي من شعر وسرد برباط اللغة من حيث التكوين الحرفي للكلمات، وبرباط الإحساس الإنساني بأسلوب بلاغي من حيث فنيات صياغة كل لون أدبي، فكثيرا ما نجد الكاتب في النصوص السردية لقصة قصيرة أو مقطع من رواية يستخدم الجمل الشعرية فيما كتب لتناغم الكلمة مع الحدث أو للتعبير بشكل أكثر دقة عن المشاعر النفسية للشخصية، وكذلك كثيرا ما نجد بعض التوظيف الدرامي في قصائد الشعر سواء فصيحا أو باللهجة الدارجة ليجعل الشاعر من النص قصة تميزها بداية ونهاية وشخوص وأماكن وأزمنة، ولكنه يجمع تلك الصفات الدرامية التي هي في الأصل تتبع المنهج السردي في الأدب في إطار القصيدة بما تحمل من فنيات وبلاغة الشعر، ويحدث هذا غالبا في حال جمع المبدع بين لوني الشعر والسرد في إبداعاته، فيتأثر السارد فيه بجماليات الشعر وبالمثل يتأثر الشاعر بتشكيلات درامية السرد، وأيضا لو تخصص في لون واحد ووجد أن العمل الأدبي يحتاج لتلك التيمة الفنية وبحكم خبراته وثقافاته يجد نفسه يدمج بين هذا وذاك في حرفية تزيد من جماليات العمل الأدبي ليصل إلى الغاية الأولي من الكتابة وهي الإمتاع وتحقق الخطوة الأساسية من نظرية التلقي، فكل كاتب يكتب من المجتمع للمجتمع ونصب عينيه من سيصل إليه النص، وإلا لكتب كل مبدع دون تقيد، فما من عين أخرى لناقد متخصص، أو لمتذوق واع يميز في النص عثه من ثمينه.

فالمتفحص في طرق تشكيل القصيدة المعاصرة، سيلاحظ أنها تسعى إلى البحث عن بنى وتقنيات وصيغ تعبيرية جديدة قادرة على تجسيد معاناة الشعراء الخاصة والعامة، وتطورت في أشكال القصيدة الغنائية والوجدانية البسيطة ذات الصوت الواحد/ المنفرد، وهي الطريقة التي ظلت مسيطرة على الشعر العربي في مختلف مراحله.
وهذا التشكل لا نلمسه إلا عند قلائل من الشعراء الذين انجذبوا وراء تيار التجريب الفني، فواصلوا تطوير قصائدهم نحو بنائية جديدة؛ ومن هنا اتجهوا إلى استدعاء وتوظيف العديد من العناصر المنتمية إلى أجناس أدبية أخرى في قصائدهم، كالتوتر، والصراع، والحوار بشكليه، وتعدد الأصوات، واستدعاء الشخصيات (معاصرة/ تراثية)، والاسترجاع، والأقنعة، والأحداث، واصطناع الضمائر العديدة، وتداخل الأزمنة، والأمكنة؛ كما تمثلت في قصائدهم عدة تقنيات فعالة من بقية الفنون، فضلا عن الأساليب الفنية الأساسية في الشعر كالرمز والأسطورة والصورة الفنية واللغة والبنية الإيقاعية. كما تعرضت شأنها شأن بقية الأجناس الأدبية إلى ضغوط العصر والواقع.

وغالبا ما يجد الشاعر الرغبة في وجود التشكيل الدرامي للنص الشعري إن طال النص، أو استدعى من فنيات السرد صفة القص، وليس فن الدراما الشعرية بالفن الوليد حديثا، فمنذ العصور القديمة للشعر والشعراء تستخدم أسلوب التشكيل الدرامي في القصيدة، ولكن بدرجات متفاوتة، وبنسب جودة تختلف من شاعر لآخر أو من قصيدة لأخرى لدى الشاعر ذاته، فالقصيدة الشعرية مهما اعتمدت مكوناتها على خصائص وتقنيات القص والمسرح والرواية، للتخفيف من حدة الغنائية، والتحرر من قيود الثبات والنمطية، ومن ثم الانطلاق إلى آفاق أكثر رحابة لتحقيق أعلى درجات الإبداع الأدبي، فإنها تحتفظ دوما بهويتها وخصائصها الشعرية.

ومن الملاحظ أن القصيدة رغم انطوائها على تنوع هائل في الأساليب والتقنيات والأشكال والرؤى، فهي تمثل جنسا أدبيا واحدا هو جنس الشعر الغنائي، وأن كافة التنويعات الفرعية التي يحفل بها هذا الشعر إنما هي تقسيمات ثانوية يمكن أن نصطلح عليها بـ “الأصناف” التي تنتمي إلى جنس أساسي. وهي التي تظل خاضعة بالأساس للصوت المهيمن للشاعر، والذي يتحكم في النسيج الداخلي والبنيوي والدلالي للقصيدة.

والشاعر المتمكن من أدواته هو من يستطيع الدمج بين تلك الفتيات دون جور اللون المستضاف على اللون الأصلي للعمل، فلا يجوز أن يكون مثلا يكتب الشعر كلون أساسي للعمل وتطغى علي النص فنيات القصة القصيرة مثلا، وإلا لعد العمل من سبيل السرد القصصي والعكس.
ومن هذا الاندماج يصل الشاعر في التعبير عن مشكلات الواقع الخاضع ـ جدليا للتناقض الذي هو أساس ما تجري به وعليه الحياة اليومية، هذه الحياة التي تنعكس على أناه الذاتية المتعددة النزعات والانفعالات. والموزعة على شخوص وأصوات وضمائر تقوم على التحاور والتصارع والتوتر، بهذا ينقل الانفعال من الذات المفردة إلى الذات الجمع، ويعطى للتأثير الفردي سمة التأثر الجماعي. وكأن هذا الإقلاب سبيلا دفع به الشاعر إلى رؤية تجربته الذاتية منعكسة على صفحة مرآة مجتمعه، وكان هذا سبباً في استفادة شعره من العناصر الدرامية، ذلك أن الدرامية، لا تلغي الغنائية بل تثريها وتغذيها بالكثير من الطاقات البنائية الجديدة فتمنحها أشكالا متجددة، الشيء الذي يجعلنا نصف القصيدة المستخدمة لبعض الأساليب الدرامية بـ “الغنائية الدرامية”.

المبدع يكون أكثر صدقا فنيا وأجود إبداعا عندما يكتب نفسه، فهو الأعلم بها دون غيره، وعندما يسقط بعضا من مراحل حياته في عمل أدبي غالبا ما تكون مغلفة بسياج من الرمزية أو استعارة اسم للشخصية، أو تركها على العموم ليرى كل قارئ وجه التشابه النفسي، أو الملابسات الحياتية مع الشخصية ونفسه، لتتحول التجربة الإبداعية من ضيق الذاتية إلى اتساع العموم، أما في حالة رصد عمل كامل يعبر عن الذات فهذا يحيلنا إلى اعتباره نوع من الترجمة الذاتية للمبدع، وهذا ما حاوله محمد فكري سواء بقصد أو بغير قصد في دراما شعرية بدأت كالسير الشعبية القديمة بالذكر والحمد ثم البداية من طفولة البطل والتنقل بين مراحل الحياة إلى نقطة وصوله الحالية متضمنة الأحداث التي تستقى منها الحكمة.

وفي القصيدة الديوان التي هي محل القراءة نجد أننا أمام مبدع يجيد الشعر والسرد بنفس الجودة والحرفية التي تمكنه من عرض المنتج الأدبي في شكله المقصود محملا بفنيات اللون الآخر، ليجعل من القصيدة قصة، بشخوصها وأحداثها وزمانها وأماكنها، ولكن في ثوب الشعر المعتمد على بلاغة الحرف وأساسيات بناء القصيدة من وزن وقافية، لكنه التزم السير على نهج التقسيم الرباعي، فكأنه الراوي لسير الأقدمين على أنغام موسيقى التفاعيل التي كشف عنها في بداية العمل، وكأنها أنغام آلة موسيقية بينها للقارئ، لتحدد له ضمنا كيف يسير مستمتعا مع الشعر بموسيقاه، والسرد بجماليات تتابع الأحداث مع الشخوص، وإن كان اختار تفعيلة لا هي لبحر البسيط مستفعلن فعلن، ليكون النسق لموال رباعي، أو مستفعلن فاعلاتن، ليجعل النسق من فن الواو على مجزوء المجتث، لكنه اتخذ من تفاعيل بحر السريع مستفعلن مستفعلن فاعلن التي اتخذ لمزيد من السرعة شكل العلة الأولى وهي تحويل فاعلن إلى فاعل بعلة النقص، يقول:
مستفعلـن مستفعلـن فــاعِـل
تَفعيلَـة حِلْـوة ورِزقهـا عالي
فيه ناس تشوفها تُنْصُب الفاعِل
ونــاس كــلامـها ومَـهْـرَها غالي
ثم بدأ من اللعب بالحرف وسر الحرف ودلالاته، فجعل ما يرمز إليه يحمل من التأويلات العديد مما يفتح طاقات التفكير عند المتلقي ليصل إلى مدلول أقرب لمقصد الشاعر الذي أطلق الرمز في نواح متعددة:
يـا حـاضِـريـن لو تِسْمـحـوا سـاعـة
هانْزِل في بَحر الضَّاد لِحَدّ السِّين
مِسْتَـكتـريـن تِـسْتَحمـلـوا ساعــة
طَب يعمل ايه اللي غَرَز في السِّين
***
يـا سـيـن سِنـانِـك كـانـت المِنشــار
شَبَكت في لَحمي، قلبي نزّ حروف
مَلْعون أبُو اللي كان سَبَب وانشار
أفْتَى بخـروج خـالـي مِـن المَعروف
***
«يَــس» يــا رُبْـع الذِّكْر فـي التَّرتيب
يـا نُصـرِة المَغلـوب فـي سـاعِـة هَـمْ
هـاقـراكِ مـش عَلَشان يموت الدِّيب
هــاقـرا بِنيِّة الهُـدَى واللَّم
***
أَسنان تَلاتة في العَدَد والوِلْد
والأبّ رابِع أمَّا خَمْسَة غياب
عَ الكَنَبَة قاعِد جِدّ وِلْد الوِلْد
والبَرَكة حَالَّة من الحيطان لِلباب
***
عيب اسْتحي ما تِلْزَقيش في المِيم
لــو تِسْبَقيـهـا الكـِلْمَـة تِصْبَــح سـمّ
إن كـان ضَروري تِلْـزَقي في المِيم
هَتْشاركي نُـصّ الدّيـن وحَـقّ الدَّمّ
لعب بحرفية الشاعر على بلاغة الجناس في قافية الرباعيات في الأغلب، فلم تكن القافية بحرف الروي أو حرفين فقط، بل امتدت في مواضع لتصل إلى التورية بنفس اللفظ، وكأنه يبين قدرته ومهارته على تطويع الكلمة، مؤكدا على غزارة وعمق قاموسه اللغوي.
استعرض محمد فكري قوته الإبداعية القصصية في رسم الخط الدرامي للنص فبدأ بمولد وطفولة البطل متخذا عنوان العمل اقتباسا من أسفار العقد القديم وهو سفر الخروج، وهنا جعل الخروج من القرية إلى المدينة الحلم التطلع النظرة إلى المستقبل الأفضل، ولكنه في خروجه كان يحمل سر الحرف، وكأنه مفتاح العودة..
التيمة الأساسية للتشكيل الدرامي حال بناء الرباعيات لم يخرج عن ما حدده بالعنوان، فالقصة ارتبطت بالخروج، وهو ما قصده المبدع سواء الخروج من القرية إلى المدينة، ثم الخروج من المدينة إلى القرية عائدا، ولكنه يصحب معه أغصان شجرة العمر، وهو ما يعد التناص الضمني مع قصة سفر الخروج، رغم اختلاف تفاصيل خروج البطل عن خروج موسى عليه السلام، إلا أن التيمة الفنية واضحة الدلالة. فموسى قد خرج وحيدا ثم عاد بأهل وذرية، كذلك دلالة الرقيم على باب المنزل وما سجل عليه من أسماء:
جــاي لَــك رســالــة حُـــب مِ الأحــبــاب
فـيـهـا أمــارة انِّـي ابـن صاحـب الـبـيـت
مكتوب أسامي النَّاس في ضهر الباب
فـوق بــعـضهـا بِـعَــدَد شــروخ الـبـيـت
وهنا نلحظ التأثر بالموروث الديني عند محمد فكري الذي جعل الإسقاط من أهم التيمات الفنية في هذا العمل، فجعل من رحلتي الخروج والعودة وما بينهما من سنوات معادلا موضوعيا لنقد أوضاع عديدة دون أن يتعرض بالنقد المباشر الذي لا ترغبه النفس، وبالديوان العديد من الرموز التي تحتاج إلى تحليل دلالي لم يلقها الشاعر هباء، كرقم 40 مثلا،:
بَــعْـــد اربعيــن الـــرُّوح بِتِتْمايِـل
تِمْشي بهداوة والنَّفَس عَ القَدّ
بَـطَّــلْـت تِنْـدِب حَظَّـك الـمـايِـل
آخرَك تِبَيِّت والدّموع عَ الخَدّ
وفي دلالة العود والأوتار، هل بالحقيقة يقصد العود آلة العزف الموسيقي بأوتارها؟، أم يقصد عود الجسد الذي تفرع منه الأبناء فكون أسرة من خمسة أفراد كل منهم أصبح وترا في عود الحياة؟:
الــعـــود خَــمَــس أوْتــار وكُـنَّـا احـنـا
خَمْسَة في واحِد نِطرِب السَّامْعين
جـــايِــز يـكُـون السَّــادِس المِـحـنـة
فالأصل خَمْسَة وخَمْسَة تِخزي العين
يرصد الشاعر تجربة السيرة الذاتية شعرا في هذا الديوان، ليثبت لنفسه قبل المتلقي أنه قادر على التشكيل الدرامي للنص، وكأنه أراد أن يكتبها قصة فخرجت شعرا، أو شعرا فحملت من درامية القص ما أمتعنا به منذ أن بدأ إلى أن انتهى.

اترك تعليقاً