الشعر قادم من لبنان على أجنحة فراشاته
كتب : أحمد قنديل
لا غرابة أن يأتينا الشعر غضا طريا نقيا بهيا عميقا من لبنان ,
وكيف لا ولبنان كان وما يزال موطنا لتأصيل الثقافة , رغم كل الظروف التي يمر بها , …فلقد كان مصطلح ( طبع في بيروت ) شعارا لجودة المطبوع.. وما تزال كتب لبنان التي طبعت في القرن الماضي تدور بين أيدي مثقفي الوطن العربي ما بين كنب تراثية وأدبية وعلمية..
ففي القرن الماضي كان العرب يكتبون ولبنان يطبع والعالم كله يقرأ
.
فلا غرابة إذن أن تصدح فراشات لبنان بالشعر .
. ولعل تحليق تلك الفراشات يجعلني أتساءل عن سبب تألقهن رغم حداثة أعمارهن .. هل طبيعة التعليم في لبنان وتميزه خلال العقدين الماضيين .. أم احتكاك الشوام عموما واللبنانيين خصوصا بالثقافات الأخرى .. أم طبيعة لبنان الساحرة .. أم تأثرهم برواد أدب المهجر اللبنانين في القرن الماضي وما أكثرهم , أم حالة التنوع الثقافي والعرقي والطائفي الذي يتميز به لبنان وبها تتسع آفاق أبنائه الثقافية والأدبية , أم كل ما سبق ؟ …
.
سأقف عند بعض الشاعرات على سبيل المثال لا الحصر فهناك الكثيرات غيرهن في لبنان . ولكن لا الوقت يسعف في حصرهن ولا المكان
.
والآن مع
أسيل سقلاوي ( صور ) ..
فاطمة أيوب ..Fatima Ayoub .
( النبطية ).
فاطمة الساحلي ..( النبطية )
حنان فرفور(صور )..
سارة بشار الزين ..(بيروت )
.
.. وكلهن علامات بارزة في كتاب الشعر العربي الحديث .. رغم حداثة أعمارهن
وفي هذا المقال اخترت فراشتين للوقوف السريع على منتجهم الشعري ممثلا في نص من نصوصهما .. وفي قادم المقالات سأكمل الوقوف على قصائد باقي الفراشات
.
والآن مع / حنان فرفور.. / وفاطمة أيوب
.
حنان فرفور ..
في النص المعنون بعنوان (هجر )
هجر
وأنتَ تعيدُ إليّ المرايا
ووجهًا غريبًا لبنتٍ سوايا
ورسمًا بغيرِ يديْن سيُطوى
كظلّ وحيدٍ بحضن الزوايا
تحجّجْ بأنّ الشتاء قطيعٌ
يهشّ السكوتَ لعشب الحكايا..
وأنّ البيادر في الثلج أنقى!!
وأنّ الصقيع يصون الضحايا!
وأنتَ تُـعرّي التباس الحريق
وتقطع بالشكّ بردَ النوايـا
تقول بأنك ما زلتَ مثلي
صديقًا يمشّط شوك خُطايـا..
وإني ابنة العين..
كيف ترشّ إذا
فوق نعش النهار ..بُكايـا؟!
وكيف تسمّي الرحيل مُناك؟
!فإن شئتَ سمِّ الرحيل مَنايـا
وإنْ شئتَ فاقبلْ بقائي،
وإن لمْ…أحِلْني بطعنِ الدروب بـقايـا
أنا كلما حاولتك السهام
رشوتُ القنا كي تجوزَ حشايا
أنا كلما راوداك :
الفطام وهجري
تعبتُ.. أحلّي دمايا !
ومهما رتقتُ ضلوعي ومهما…
نصبتَ بسهو الثقوب عزايا
كأني وما كنتُ ماء أناك
وما كنتَ يوما…شهيق أنايا!!
.
.وأنا
من النظرة الأولى لنص (هجر ) للشاعرة اللبنانية / حنان فرفور ,, أرى الشاعرة وهي داخل صورتها الكلية التي رسمتها لتجربتها الشعرية و التي اختارت إطارها المؤلف من ثنائيات معنوية ولفظية ذات عمق دلالي .. هذا الإطار أرى فيه :
( الشاعرة والمرايا , ولوحة الرسم والظل , والقطيع والعشب .. وضحايا وحريق , وسهام وحشايا, وأناك وأنايا .. …. إلخ)
.. ,
هذه الثنائيات المتشبعة بعاطفة اللوم حينا ومشاعر العتاب والحنين حينا آخر , ترفع من وجدانية القصيدة وتضعها موضعها من الصدق الفني والوجداني في التجربة الشعرية , كما ولم تترك الشاعرة هذا الشعور منسابا بلا ضابط أو رابط عبر ثنائياتها الوجدانية المتمازجة
, بل ضبطته بمنطقية الفكرة وعقلانية الحوار الشعري واختلاف الضمائر بين ضمير المتكلم (أنا ) في ( أنا كلما حاولتك السهام ).. وضمير المخاطب (أنت ) في (وأنت تعيد .., وأنت تعري التباس )ْ(وما كنت يوما )
أقول : إن تجربة الشاعرة اكتملت عناصرها من حيث الإطار العام للصورة بمفرداته داخل صورتها الكلية
بألوانه :
والتي نجد ظلاله في ,(الظل والعشب وبياض الثلج , ولون الحريق , والدماء.)
.
وحركاته :
التي نجدها في .. حركة ( تهش ) والحركة في (تقطع ) ( تعري ) ( يمشط )
.
وأصواته :
والتي نجدها في ( أصوات الكلمات التي بها حركة باعتبار القانون الفيزيائي الذي يقرر أن لكل حركة صوتا ) ),,
.
بالإضافة إلى العاطفة المسيطرة على جملها وعبارتها والتي ضبطتها بفكرة اللوم والعتاب ونسيج الحكاية المشوِّق ,
فما التجربة الشعرية الصادقة إلا نسيج من تلك المكونات المنسجمة بين فكرة قوية , وعاطفة صادقة , وصورة كلية شاملة اللفظ والعبارة والصور الجزئية والموسيقى
..
ومع كل ذلك
لم تغفل أن تحرك صورتها الكلية بمكوناتها المختلفة , وتمنحها الحياة من خلال بعض الصور الجزئية المساعدة ,
كالاستعارة في ( رسما بغير يدين ) ( يهش السكوت ) , و ( حضن الزوايا )ْ ( تقطع برد النوايا ). و(حاولتك السهام)ْ
.
والتشبيه البكر والرائع والتي ختمت به النص
في (كنت ماء أناك ).. و(كنتَ شهيق أنايا) .. وكثير من الكنايات .. إلخ
.ْ
.كما جاءت نغمة ( فعولن )ْ المكررة
لتجعلنا نلهث خلف تعبيراتها وموسيقاها السريعة ,, هذه التفعيلة التي أشعرتنا بدفقات الشاعرة السريعة والراغبة في تفريغ فكرتها ومشاعرها في آن واحد
بل و تحاول أن تفرغ كل لومها وعتابها وحنينها في جمل تلغرافية موجزة وسريعة ومعبرة
..
ورغم هذه الشعرية المتدفقة
أراني أقف أمام تعبير الشاعرة ( أنا كلما راوداك الفطام وهجري )ْ , ولا أعرف لماذا ألحقت ألف التثنية للفعل ( راود ) رغم انها عطفت على الفاعل الفطام بالمعطوف هجري ) أعلم أن اضطرارنا لضبط الموسيقى والوزن قد يدفعنا لمثل ذلك
..
وأقف أيضا عند كلمة (تحجج ) رغم صحتها اللغوية والمعنوية إلَّا انها تفتقد للشاعرية وكان بإمكان الشاعرة أن تستبدلها بغيرها
.
وأيضا وقفت عند كلمة (إذاً )ْ في قولها ?? كيف ترش إذا ! فوق نعش النهار بكايا )
.وكما أشار بعض النحاة بإمكانية ُ استعمال (إذاً) بهذا الرسم عند التّعبير عن الظّرفيّة الزّمانيّة أو المكانيّة، أو عند استخدام أسلوب الشّرط، وفي الجانب الآخر تُستخدم (إذنْ) عند الحديث عن الاستنتاج، وفي حالة أُخرى قِيل إنّها إذا أتت قبل فعلٍ مُضارع منصوب، فهي على هذا النّحو تُرسم “إذنْ” لأنّها تكون حينها حرف نصب، أمّا هذا النّهج قد لا يُرضي البعض، مثل قول المُبَرِّد – وهو أحد أعظم عُلماء البلاغة والنّقد والنّحو -:أشتهي أن أكوي يد من يكتب ( إذنْ ) بالألف… وأنا لست مع المبرد فيما ذهب إليه ولكني أرش يد الشاعرة بماء الورد على تلك الشاعرية المتحققة في نصها
..
نص رائع صديقتي الشاعرة حنان فرفور, ويستحق الكثير من النظر والتحليل للوقوف على مدى الشاعرية فيه .. وأكتفي بهذا القدر حتى لا أثقل على القارئ …. دمت مبدعة
.
النص الثاني لفاطمة أيوب
فهذه فاطمة أيوب التي تكتب السهل الممتنع , وتختار لقصيدتها : (غياب ) بحر الوافر ( مفاعلتن . مفاعلتن . فعولن )
والغريب أن يكون (هجر ) حنان فرفور .. مرادفا ل (غياب ) فاطمة أيوب رغم اختلاف المأخذ والتناول
.
مع النص :
يتيمًا في غيابك صار قلبي
وكان اللهُ في عون اليتامى
تمرُّ عليَّ، بي، خلفي، أمامي
وكل الناس قد مرّوا كراما
فتختلطُ الأمورُ بأمِّ رأسي
لأمسي بين جلّاسي هلاما
وقد علّمتُ وجهي كيف يهدا
ولكن كلُّ ما يَخفى تنامى
فبي طرقٌ , وأرصفةٌ , وناسٌ
وبائعةٌ تصيح “معي خزامى”
وطفلٌ متعبٌ من كلِّ شيءٍ
أزالَ العشبَ، وسَّده وناما
وشاعرةٌ تفرُّ إلى ازدحامٍ
فبعضُ الشعرِ يقتات ازدحاما
عجوزٌ مطرِقٌ في الأرضِ يحصي
بلاطًا ثمَّ لا يبدي اهتماما
بيوتٌ في البعيدِ وقد أراها
من الأضواءِ تلتحمُ التحاما
لترسمَ وجهكَ المشتدَّ بعدًا
أقرّبُه وتسألني علاما
حلالٌ أن تذوقَ هناءَ عيشٍ
وفي عرفي الهنا أمسى حراما
رميم كيف يحيا لا تسَلني
وكلّك فِيَّ كم يحيي عظاما
لقد أشعلتَ نارًا في ضلوعي
فكن بردًا ولا تنسَ السلاما
..
ولا شك أن التجربة الشعرية للشاعرة فاطمة أيوب, تتخذ إطارا فنيا
عناصره : ( الشاعرة .. القلب .. الناس .. الجلاس .. بائعة .. طفل .. عجوز إلخ) حتى لنكاد نتصور هذه اللوحة التشكيلية بعناصرها المتحركة داخل الإطار
ولا يخفى علينا وجدانية القلق والفقد التي واكبت فكرة النص وأظهرتها الشاعرة في جملها وأساليبها مستندة على التراث حينا ( وكان اللهُ في عون اليتامى) , ( فكن بردًا ولا تنسَ السلاما ) , ثم على ثقافتها الخاصة حينا آخر
.
يتيمًا في غيابك صار قلبي
وكان اللهُ في عون اليتامى
.
تبدأ أبياتها بالنكرة (يتيما )ذلك الخبر المقدم لتجعل المتلقي يسأل من اليتيم ومن ذا الذي يتمه, لكي يصل بعد هنيهة إلى أن اليتيم هو القلب وسبب يتمه هو غياب محبوبه .. في أسلوب يمنحه التقديم والتأخير والتنكير والتعريف دهشة شعرية.
ثم يأتي الشطر الثاني ( وكان الله في عون اليتامى ) عبارة تجري على ألسنة الناس كدعاء , ولكن الشاعرة وظفتها توظيفا شعريا تراثيا عبقريا فصارت تحمل من أناها الفاقدة .. غير ما تحمله من شكلية الدعاء لليتامى
,
ثم تستمر الشاعرة في إظهار أثر الغياب على قلبها وكل حواسها .
تمرُّ عليَّ، بي، خلفي، أمامي
وكل الناس قد مرّوا كراما
فتختلطُ الأمورُ بأمِّ رأسي
لأمسي بين جلّاسي هلاما
وقد علّمتُ وجهي كيف يهدا
ولكن كلُّ ما يَخفى تنامى
فبي طرقٌ , وأرصفةٌ , وناسٌ
وبائعةٌ تصيح “معي خزامى
فبرغم الغياب إلا انه يمر ويملأ كل اتجاهاتها بحضوره في (ياء المتكلم في بي خلفي أمامي) فتصير في حيرة من أمرها تلك الحيرة التي عبرت عنها ب ( أمسي بين جلّاسي هلاما)ْ
وهي التي تعلم ملامحها كيف تهدأ وتصبر , ولكن أنى لها وكل ما يخفى تنامى
وهذا المتنامي يكون في صورة الطرق والارصفة والناس والبائعة للخزامى والطفل المتعب والشاعرة الفارة إلى الازدحام والعجوز المطرق
والبيوت
كل تلك العناصر من أجل أن تصل بنا إلى
.
لترسمَ وجهكَ المشتدَّ بعدًا
أقرّبُه وتسألني علاما
.
ثم تأتي المناشدة في نهاية النص
وكأنها تعاتبه على غيابه . وعلى أشياء أخرى اقترفها ببعده عنها
حلالٌ أن تذوقَ هناءَ عيشٍ
وفي عرفي الهنا أمسى حراما
.
.. ويذكرني عتابها بكلام أمير الشعراء أحمد شوقي. ويجوز انها تأثرت به بشكل أو بآخر حين قال :
أحرام على بلابله الدوح .. حلال للطير من كل جنس
. ثم تواصل
رميم كيف يحيا لا تسَلني
وكلّك فِيَّ كم يحيي عظاما
.
ثم تشتد في تعلقها ويتحول العتاب إلى رجاء وأمل لتختم نصها برجائها ان يكون بردا لنار قلبها ولا ينسى السلام في قفلة ختامية تراثية رائعة
( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ
لقد أشعلتَ نارًا في ضلوعي
فكن بردًا ولا تنسَ السلاما
..
تحية احترام وتقدير لفراشات الشعر اللبناني
(يتبع )….
أحمد قنديل