التعبيرية الوحوشية في ديوان “همرات شوارسكوف” د أنور غني الموسوي


كريم عبد الله شاعر عراقي يتميز بكتابة النص الشعري ذي البعد التعبيري، اي المتميز بتجلي الثقل الشعوري و الزخم الاحساسي في نصوصه، فيحقق الرسالة النصية بتلك الوحدات الشعورية وان كانت الكلمات و المعاني ادوات لاجل تجلي تلك الوحدات الشعورية ،وهذه ميزة قصيدة النثر المكتوبة باسلوب سردي و بشكل افقي والتي يجيدها كريم عبد الله.
و من الاساليب التي اجاد فيها الشاعر كريم عبد الله هو التوظيفات النصية للكلمات، اي استخدام مفردات مفارقة في مزاجها الشعوري للجمل و العبارات التي تتواجد فيها. و معنى هذا الكلام يفهم بوضوح اذا ما تذكرنا حقيقة مهمة في الكتابة وهي ان للنص بما هو نص ارادةُ و غاية. هذه الارادة النصية و الغاية – المستقلة عن المؤلف- تتطلب مزاجا موحدا و لونا متناسقا من الالفاظ و المعنى وايّ انحراف عن ذلك التناسب و التناسق النصي النسقي يعد خروجا عن التعبير المألوف. و كريم عبد الله ليس فقط يخرج عن هذه الطريقة بل انه يعمد الى الاخلال بهذه الرتابة المنطقية للغة بالفاظ مغتربة و غريبة عن الجمل و العبارات التي توجد فيها وهذا هو شكل من اشكال التعبيرية الوحوشية في الكتابة و التي تشبه كثيرا التعبيرية الوحشية في الفن التشكيلي.
فمن العنوان “همرات شوارسكوف” – و شوارسكوف هو القائد العام للقوات الاميركية في حرب الخليج ضد العراق- تتكشف الارادة التوظيفية للمؤلف كما انه يدلل على البعد التعبيري الوحوشي الاغترابي للكتابة، وهذا الاسلوب انما كان لاجل ايصال ثقل الازمة و بعدها النفسي الاحتلالي المستبيح للانسان و الذي حلّ محل ما هو محلي و مألوف بما هو غريب و وحشي.
في القصيدة المركزية من الديوان “همرات شوارسكوف” نجد الشاعر وظف كلمات يومية حياتية بعيدة عن الشعرية و غريبة عن مزاج الجمل الشعرية الانتقائية واجاد في ان يكسبها بعدا شعوريا و تعبيريا فذا. من هذه الكلمات ” اسلحة الدمار الشامل” و ” الهمرات” و ” الايدز” و ” الهمبركر” و ” سوق الهرج” و ” الاخضر بسعر اليابس” و ” الرؤس النووية” و المفخخة”. هذا القاموس اللفظي يكشف عن ارادة مؤكدة و صريحة للمؤلف ان يستخدم هذه الالفاظ اليومية الحياتية اللاشعرية محققا بذلك قاموسا يوميا في وسط النص الشعري، و من جهة اخرى نجد كسر كريم عبد الله للغايات النصية بايراد هذه الالفاظ وسط عبارات شعرية انتقائية. كما في عبارة :
” لــ أسلحةِ الدمارِ الشامل نكهة ٌ جرّأتِ الهمرات المسعورةِ تركبُ المحيطاتِ البعيدةِ”
و عبارة:
” تكتشفَ خرائطَ الهمبركر أفواهَ المدنِ المملوءةِ الحاناً مريرة مقتنعةً بــ جدوى اللعبةِ وإغتصابِ الأحلام القادمةِ تغمضُ عيونها الشرهة ملتهمة ضجيجَ الشوارع ومحلاّتِ ( سوق الهرج )*”
و عبارة :
” القرى الهناكَ أطلقتْ عنانَ خيولها السومريّة بــ صدورها السمراءَ تتفشّى نيرانها مستكفية تركّزُ قذائفَها الحمراءَ تهشمُ الأختامَ الأسطوانيّة على سروجِ ( إنانا )* المذهّبةِ فاتحةً ابوابَ جهنمَ ( تأكلُ الأخضرَ بـ سعرِ اليابس )”
وهذه العبارات تكشف عن الارادة التوظيفية و الوحشية لدى المؤلف في هذا النص حيث امتزجت الكلمات الشعرية المنتقاة و المنمقة مع كلمات اغترابية يومية لاشعرية و غريبة عن المزاج الفظي للجمل.
ان هذا النظام التضادي وهذه الكفاءة في التوظيف للمفردات اليومية اللاشعرية في نص عالي الشعري يكشف عن تجربة كبيرة للشاعر كريم عبد الله كما انه يكشف عن الكفاءة الكبيرة للنص الشعري الافقي السردي في استيعاب و تجلي هذا الاسلوب النادر من الكتابة.
وهكذا نجد هذه الرغبة و الارادة التعبيرية الوحوشية في باقي نصوص الديوان كما في قصيدة ” اقسمت ان أتوضأ بثغركِ ” حيث يقول الشاعر:
( كالطفل المدلل تحتَ هواجسكِ الراعشةِ احتضنيني أو كرفاتِ المنسيينَ هناااااااااااكَ صيّرهم زمنٌ أغبرٌ جرحاً عالقاً بذاكرةِ الوجعِ يتكيّفُ ندبةً شكّلتهُ رصاصاتٌ تتقاطرُ حقداً أقنعها الغزاة تعتلي ( متحف التاريخ الحديث )*. وتحت اشواقك الملتهبة شرنقيني حلما تفزّزهُ طائرة ( الأباتشي )* تقطّعُ خيوط طائراتنا الورقيّة المحمّلةِ بالصمتِ والمستحيل تائهاتٌ يبعثرها فضاءٌ لمْ يتماثل للشفاء بعد . أراقصُ صوتك شلالا أُباغتُ إكتئابَ مصاطبَ ( حديقةِ الأمةِ )*
و يقول :
(وريثتي انتِ ودمي مرهوناً في مدوّناتي اليائسةِ بتقافزِ كوابيسِ ( الكاو بوي )* تفتشُ عنكِ غنيمتها أنّني محضُ عاشق سحنتْ ضلوعهُ خيول البرابرةِ فطالبيهم بألفِ قصيدةٍ وقصيدةٍ وأستطلعي أخباري كلّما تستمعينَ ( داخل حسن )* يعنّي ( ألوْجَنْ يمه يا يا يمه )* .
وفي هذه العبارات يمزج الشاعر بين الوحوشوية و المحلية المذكرة بالعمق الرقيق للنفس بجانب العمق المتوحش الغابي. و هكذا نجد الوحوشية التعبيرية في قصيدة ” الدكتاتور المهزوم”
حيث يقول الشاعر:
( بعد أن أنهكته الجراحات المتلاحقة كان فكره مشتتاً وسخرية مدفوعة الثمن تطارده كظلّهِ المتواري خلف هزيمته حتى الجنود الذين تمسّكوا بافكارهِ المتهرئةِ سنوات طويلة قرروا تركهُ في ساعةِ نحسٍ كــ ملابسهم ( الخاكية )* و ( بساطيلهم )* السوداء والحمراء خلف الحدود وعبروا فوقَ جسرٍ آيلٍ للسقوطِ الى ضفة الجحيم)
ان وجود كلمات ( الخاكية) و ( بساطيلهم) وسط عبارات شعرية منمقة كـ( تطارده كظله المتواري) و عبارة ( وعبر فوق جسر ايل للسقوط الى ضفة الجحيم) يكشف و بقوة عن الارادة التعبيرية الوحوشية لدى المؤلف.
و تتجلى الوحوشية وبقوة في قصيدة ” ( السختجيّة )* حيث يقول الشاعر”
(على طاولةِ الفتنة جثّة ُ الديرة يشرّحها ( السختجيّة )* بـ مخالبِ الحقدِ أنانيتها الحمقاءَ قضمتْ ربوعَ المسرّاتِ في شريانها يتناهبونَ قسمتها تلهثُ أطماعهم تغوصُ طاغيةً تكتنزُ الغنائمَ بلهاء)
و يكفي العنوان و تضمين مفردة السختجية في نص شعري انتقائي في الكشف عن البعد الوحوشي للكتابة لدى المؤلف. وهكذا في قصيدة ” الناجونَ مِنَ ( العطّاب )* أولادُ الخايبات”
حيث يقول :
(الناجونَ مِنَ (العطّاب)* للآنَ يعنكبُ في ذاكرتهم عطرُ أسفارِ الرصاص النبيل وما خلّفوهُ وراءَ الحدودِ رُفاتُ أيامٍ ضائعةٍ تزدردُ نُطفهم العقيمة . )
و من الواضح بالعنوان و التوظيفات المفرداتية في النص الشعري الانتقائي الارادة التعبيرية الوحوشوية لدى المؤلف.
لقد كتب كريم عبد الله في “همرات شوارسكوف” عن المهمشين فكان شاعر الناس و شاعر الشعب و شاعر المهمشين و المظلومين، لقد كان بحق ممثلا حقيقيا لهذا الانسان المعاني و المحب ففي قصيدته “( جرغدُ )* أمي “
تجتمع هذه المعاني حيث تجد التعبيرية الوحوشية و الهامشية و الودودية و المحلية، انه نص فذ يحقق انموذجا فذة لقصيدة النثر التي تجمع المتضادات حيث يقول الشاعر:
(عامٌ جديدٌ آخر وأنتِ تلبسينَ الليلَ كــ ( جرغدِ )* أمي ( نشكبنُ )* الخرابَ مِنْ ( سوقِ السنك )* بـ عربةِ جوّالٍ خشبيّةٍ تبحثُ عنْ صاحبها بينَ أفواج مِنَ الفراشاتِ المذبوحةِ )
نلاحظ العبارات اليومية المهمشة وسط لغة الخراب و وسط عبارات شعرية منمقة.
لقد نجح كريم عبد الله ان يحقق شكلا تعبيريا متميزا في ديوانه “همرات شوارسكوف” و ان تتجلى التعبيرية الوحوشية فيه، و ان يكون هذا الديوان من الكتابات الشعرية المهمة في الادب العربي المعاصر.

اترك تعليقاً