على الفيشاوي حكاوي ومصرنا أسرار .. ملحمة مصرية تاريخية شعرية ، للشاعر صلاح يوسف
دراسة كتبها : نبيل مصيلحي
ــ
أنا لست مع من يقول أن العامية المصرية ، هي فصحى فقدت فصاحتها ، ولا أميل إلى آراء تنضح بالفزلكة ، وتعتبر العامية ” كلشن كان ” ، كرصاصات طائشة لا تصيب الهدف .. فقط تصدر منها صدى الأصوات التي سرعان ما تنتهي ، ولا يبقى منها أي أثر ، وآراء أخرى تعتبر شاعر العامية في حالة دائمة من الهروب عن مضمار الشعر الفصيح ، وتتهمه بأنه يلجأ إلى الأسهل ، الذي لا يقيده بجماليات اللغة والمحسنات البديعية ، أو تثقل ذهنه وترهقه بقاموس من المفردات الصعبة ، أو تلزمه بوزن على بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي ، وقافية قد يتعثر في ممارستها .
ولأنني أؤمن بأن ما سبق من آراء ، هو ضرب من ضروب الجهل ، وضبابية الرؤية ، وفقر الثقافة الأدبية ، وعدم مواكبة مسيرة روّاد مدارس الشعر العامي بداية من عبدالله النديم ، وبيرم التونسي ، وفؤاد حداد ، وصلاح جاهين ، وعبد الرحمن الأبنودي ، وأحمد فؤاد نجم ، وسيد حجاب ، وإبراهيم رضوان ، وفؤاد حجاج ، وقائمة أخرى من شعراء العامية المصرية ، لها بصمة واضحة في الحياة الأدبية ، لذا فنحن لا نعير الآراء المضمحلة أعيننا أو آذاننا أو اهتمامنا ، فهي آراء هادمة ، لا يتمخض عنها سوى الهراء .
فالعامية المصرية هي روح الشعب ولغته ، أو لهجته التي يحسن صياغتها ، والتعامل بها في حياته اليومية ، وأن موضوع خوف شعراء الفصحى من سيطرة العامية قد قتل بحثا ، فلن نتطرق إليه بالتفصيل ، ولقد أكدنا في مقالات ودراسات عديدة ، أن الفصحى والعامية يواجهان من خندق واحد مصير الأمة المصرية ، ولا خوف على أحداهما من الأخرى، ونعلم أن لكل بلد لهجتها التي تتعامل بها في حياتها اليومية.
وأما ما يفرّق بين شاعر وآخر ، هو أصالة الموهبة من عدمه ، وامتلاك الأدوات بما تشملها من لغة أو لهجة ، والوزن ، والمشاعر والتصوير الفني ، والخيال ، والثقافة .. كل هذه المكونات تصنع الشاعر المتدفق العواطف ، والممتلئ وجدانه بالمشاعر والرؤى ، أضف إلى ذلك مواكبة الأحداث القريبة والبعيدة المحلية والعالمية ، ومدى رصده لها ، والتأثر بها ، وكذلك السعي إلى التعرف على كل ما هو جديد ليعطي كل ما هو مدهش وغريب وبديع وغير متوقع ، وتشكيل عالمه بما يتيح له التكيف والانسجام معه .
ولأن التجارب الشعرية متعددة ومتباينة في الشكل والمضمون ، وهذه من الفروق الفردية المسّلم بها ، فمن الشعراء من يحرر القصيدة من طابعها العادي ، وينطلق بها إلى آفاق رحبة ، تستوعب التطوير ، وهذا يستلزم أن يكون الشاعر على وعي بالمطروح من إبداع الآخر ، وعليه أن لا يتوقف عن التنقل من عالمه ، إلى عوالم أخرى جديدة ، أو إلى مناطق لم يحُط عليها طائر إبداعه من قبل ، أو طائر إبداع غيره ، ومن الشعراء من لا يجتاز تجربته حدود التلقائية ، ولا يرهق نفسه في التفكير ، والبحث عن الجديد ، وقد يكون هؤلاء لا يملكون أدواتهم كاملة ، فلا عذر لهم ، لأنهم استعذبوا الكسل ، والركون في مستنقع المباشرة الرديئة ، التي لا تزينها الفنية ، وعدم خوض التجارب ، والكشف عن الجديد من الواقع أو من الخيال واستخدامه ، فمن عرف التجارب طابت له المشارب كما يقول المثل.
ونحن بصدد تجربة رائدة ، صلبها / قوامها / بنيانها اللهجة العامية المصرية الأصيلة ، والتي تضرب بجدورها في أعماق الشعبية ، فشاعرنا اتجه اتجاهاً مباشراً نحو هذا الوعاء الوطني الأصيل ، ليستقي منه مفردات العامية لقصائده ، واستطاع الشاعر تضفيره للأحداث التاريخية ، بأسلوبية شعرية ، استخدم فيها كل مكونات التجربة الشعرية ، والتي تعتمد على الموهبة والأدوات المشار إليها سابقا ، والتصوير الفني والثقافة ، وأعتقد أن ما يقدمه الشاعر ، هو مشروع بذاته ، وإن لم يقدم بعده أي أعمال شعرية .
ومن ( حكى ) نذهب مع الشاعر صلاح يوسف لنكتشف ما حكاه أو رواه على صفحات ديوانه ، وتكملة لما أسلفناه ، فالحكاية تشير بعمومية مضمونها إلى أحداث عاشها الشاعر ، أو رواها له آخر ، أو نقلها عن غيره ، وفي كل الحالات نجد (حكى ، يحكي ، حكاية ، حكي ) ، وكل هذا من السرد في التفكير ، الذي استطاع الشاعر ، صياغته بمهارة كي يقدمه للقارئ في قصائد من الشعر .
وعن مقهى الفيشاوي بجوار مسجد سيدنا الحسين ، فهو أحد مقاهي مدينة القاهرة العتيقة ، يوجد بحي الأزهر الشريف ، بمنطقة خان الخليلي ويعد من أقدم المقاهي ، وقد أنشأ في عام 1797 م ، وكان المقهى المفضل للكاتب العالمي نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الأداب ، ولعل الشاعر صلاح يوسف أراد أن يربط بين حب نجيب محفوظ للمقهى ، الذي شهد مسودات رواياته ، ورغبته في أن يشهد الفيشاوي على حكايات صلاح التي سيرويها ، كما شهد على أعمال كاتبنا الكبير نجيب محفوظ ، ومن قبله قصده الرائد المفكر جمال الدين الأفغاني ، والشيخ المجدد في الفقه الإسلامي محمد عبده وسيدة الغناء العربي أم كلثوم ، وفي المقهى غرفة من ثلاث غرف كانت مخصصة للملك فاروق وضيوفه ، تستقبلهم في شهر رمضان .
وبالقول الأكيد الذي لا يقبل الجدال أو الشك ، أن ( مصرنا أسرار ) ، فما زالت الأسرار مدفونة في ربوعها ، فمن يصدق أن يكون حجر رشيد الذي عثر عليه ، على يد جندي فرنسي يدعى ” بيير فرانسوا بوشار ، من جنود حملة نابليون على مصر عام 1799م ، فوق طابية رشيد بالقرب من مدينة رشيد في دلتا النيل ، ويرجع النقش إلى عام 196ق.م ، حيث حرره الكهان كرسالة شكر إلى بطليموس الخامس ، لأنه رفع الضرائب عنهم ، وكان الحجر عليه ثلاث لغات ، الهيروغليفية ، والديموطيقية ، والإغريقية ، واستطاع أن يفك شفرته العالم الفرنسي جيان فرانسوا شامبليون ، وفسر ما عليه من كتابات .
وفي وصفه الشعري للمكان ، وهو على مقهى الفيشاوي ، والذي سيشهد مولد ديوانه الشعري ، ولأنه يهوى ويعشق ، أن يسترجع الماضي من أجل تنشيط الذاكرة الشعبية ، نراه يصنف ما سوف يقصه من الحكاوي ، بأنها الملحمة الشعرية ، والتي سوف يفترش مداها التاريخي عن وطنه الطيب ، بداية من الفتوحات الإسلامية لمصر .. بالفتح الأول على يد الصحابي عمر بن العاص ، في عهد أمير المؤمنين عمر بين الخطاب رضى الله عنه .
والجميل أن يتخذ الشاعر ” مصر” رفيقته ونديمته ومؤنسته ، يقول هو ، ويجعلها تقول هي ، في مراوحة رائعة ، خلقها هو ، ويشرك أيضا أحد الشخصيات التي كتبت التاريخ كالجبرتي ، وهذا المشاركة القولية ، برغم صعوبتها إلا أن صلاح يوسف مارسها بجداره في حديث الراوي في استخدام الضمائر .. ( أنا ، هي ، هو ) ، حيث يعيش في حالة عشق لإبداعها .
ويعلن عن حبه وهو في انتظار طلتها ، ويفيض غرامه بالحنين والشوق لحد الانصهار، مع سؤاله الذي يعبر عن غيابها في بعض الأوقات .. يسأل : روحتي فين؟! وهو على ما هو عليه ينتظر على شط السعادة ، ينادي والصدى يرجع أنين ، وهو يقر ويعترف ، أن اللقاء دائماً نصيب ، ولكن أمله ، ( اللقا حتماً قريب ) .
وقبل أن يدق باب الملحمة ، يرجو منها التقاط أنفاسها بالراحة والتي تجلعها في تهيئة لهذا المقام ، وهو لا يبتعد عن تواصله مع الفيشاوي .. يا فيشاوي / صب لموون / دي القاعده صباحي .. ولأنه الفارس المصري الأصيل يطلب منها أن ترمي حمولها عليه .
وفي افتتاحه الرومانسي يقول : ” عصفوره تنسج / حلمها الوردي / في المشربيه رموشها شاورو لي / وانا ع الفيشاوي وقلبي جوه الخان / خان الخليلي بيشرب / م الحسين أنوار ” ، وهو استحضار طيف الحبيبة مصر في صورة فنية تعلن عن عاطفة الانتظار .
وفي موضع آخر بالديوان تتصدر الصور الجزئية ، الفقرة العاطفية ، وتتوالى حتي تلج هذه الصور وتنسجم وتتناغم في بعضها ، في لوحة فنية كلية ، لا تصعب على القارئ الاستمتاع بها ، فهي محملة بدلالة المعنى والغاية ، فيقول : ( أنا وهيّ / وكات القهوه تالتنا ، نسيم الروح مبعتر جوّه ضحكتنا / ولما أبص في مرايتي / واشوفك نور في وجداني / عيونك تحكي موالنا / تدوب النظره في حناني / أضم الشوق وأشتاق لك / وأحلم روحي بتقابلك / حروف الحب تتناغم على قدك / وتبدر فيض بساتينك بورد أحمر / دا من خدك / ندى من عطرك الفواح / بيملا قلبي بالأفراح / مسا وصباح / عيونك بحر أشواقي / حضنتك والنسيم دافي / معاكي تحلى أوصافي / وهبتك عمرى انا الباقي / ولا هقدر على بعدك ) ، هذا المقطع الممتلئ بالصور والتشبيهات المتلاحقة والتراكيب المتناسقة ، ، والصور الجزئية التي تفضي بعضها إلى بعض ، وتمتزج مع الأحاسيس والمشاعر ، لترسم اللوحة الفنية الكلية ، كما ذكرنا ، لحالة من الحب ، والغرام والغزل ، لتصبح صورة رومانسية تفيض بعواطف أخرى هي حميمية القرب والانتماء والوطنية .
ويبدأ عمليه استحضار أخرى ، لعظمة مصر ، بامتلااكها لأزمنة وأمكنة وشخصيات ، لا تمتلكها بلاد أخرى على أديم البسيطة ، وبفلاش باك على قصة سيدنا موسي وحكايته ، ” وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ”، لتأخذه امرأة فرعون من النيل ، ليتربي في قصر زوجها ، ويشب شابا قويا يافعا ، ثم يلجأ إلى مدين بعد أن قتل نفسا ، ومن مدين إلى أرض سيناء ، وهناك يكلمه الله ويكلفه بالرسالة ، ويعصى فرعون ربه ويتحدى سيدنا موسى بالسحرة ، وتغلب معجزة الله ما أتى به السحرة من السحر ، ويؤمنون بما جاء به موسى ، وفي ذهابه ببني إسرائيل يتبعه فرعون وجنوده ، وينقذه الله وقومه بمعجزة أخرى هي شق البحر وتجمد الماء بضرب العصا ، ويغرق فرعون وجنوده .
ونرى الحكمة من هذه البداية هي استحضار عظمة مصر التي تربى فيها سيدنا موسى وهارون ، وتربى فيها يوسف بن يعقوب ، ولجأ إليها المسيح وسكنها هو وأمه مريم العذراء ، وولد فيها إدريس ، عليهم جميعا السلام ، وحالة أخرى ، حين أرسل الرسول صلوات الله عليه إلى المقوقص عظيم أقباط مصر برسالة يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه المقوقص مارية القبطية ، التي تزوجها سيدنا محمد ، وأنجب منها سيدنا إبراهيم ، الذي مات في طفولته ، وإشارة أخرى إلى شهادة سيدنا محمد في أهل مصر ، والتي استخلصنا من معناها ، والكلام موجه للصحابه رضوان الله عليهم ، إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا من أهلها جنودا ، فهم في رباط إلى يوم القيامة ، ووصية الرسول إلى قادته بأن لا يقطعوا شجرة ولا يقتلوا شيخا أو طفلا أو امراة ، لإظهار عظمة الإسلام في الغزوات .
لقد حشد صلاح يوسف كل هذا في مقاطع شعرية متضافرة ، والتزامه الوطني ، أن يقدم قيمة حقيقة للإبداع الشعري .
واستطاع أن يقسم ملحمته إلى قصائد تشملها حالات تاريخية للعصور كما هو بالديوان .. ( ما بعد الصحابة ، الأمويين ، العباسيين ، الفاطميين ، الأيوبين ، المماليك ، محمد علي وأسرته العلوية ، الفرنسيين والإنجليز ، جمال عبد الناصر ، عصر النصر 73 ، السلام ، الثورة )
ومع تخيله بأن الحبيبة معه ، يمسك بطرف بداية الفتوحات الإسلامية ، حيث يرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، الصحابي عمر بن العاص ، والذي أطلق عليه أرطبون العرب ، لدهائه وعبقريته ، ليرمي به أرطبون الروم ، الذي اتصف بالدهاء والخداع والمكر في الشام ، وتدور رحى المعارك ، ويقهر جيش الإسلام الصعاب ، وتطهر أرض الشام والأرض المقدسة ، من غزة إلى نابلس ، وعسقلان ، والقدس ، وفي القدس كانت وقفته بأوامر عمر بن الخطاب الخطاب ، ويقول صلاح يوسف .. ( أرطبون العرب ذل أرطبون الروم ) ، وينتقل الشاعر بقوله ” حبك في قلبي اشتعل ، والقاعده مالها لزوم ” ، حيث كان الهدف ” غزو مصر ” ، والتي سمع صوتها وهي تنادي ، وبيقين يقول : ” جي لك صباح نادي ” ، بعد الليل والمآسي التي لاقاها أقباط مصر من حكم الرومان .
وتبارك خطواتهم على اثر خطوات الرحلة المقدسة ، من العريش إلى المساعيد ، والعبد ، إلى بلبيس ، وينتصر جيش الإسلام ، ويبني المسلمون مسجدا ، اطلقوا عليه اسم ” سادات قريش ” ، تيمنا بصحابة رسول الله ، وجيش الإسلام يتحلى بالصبر ، وأمام حصن بابليون ، الذي بناه تراجان في وقت الاحتلال الروماني ، وتمر الأشهر الصعاب ، ويتحصن البيزنطيون خلف الحصن ، حتى انهار الحصار بعد سبعة أشهر ، ويفتح المسلمون مصر في ترحيب أقباطها بهم .
لقد عبر الشاعر بما لديه من ثقافة تاريخية عن أحد وأهم الفتوحات الإسلامية الرائدة ، التي قادها الصحابي عمر بن العاص في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويبنى المسجد الأعظم ” عمر بن العاص ” ، ليكون أول المساجد بالقاهرة .
ويتوالي على مصر الولايات ، من بعد عمر بن العاص ، حيث عزله أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه عام 24 هجريا ، قبل أن يعيده عليها معاوية بن أبي سفيان ، ويموت بها عام 43 هجريا .
ويليه عبدالله بين أبي السرح ، وكان واليا على الصعيد في عهد عمر بين الخطاب ، ثم ولاه عثمان بين عفان مصر ، وغزا أفريقيا ، وغزا ذات الصواري ، وأساور ، ما بين 24 هجريا إلى 35 هجريا .
واغتصب محمد بن أبي حذيفة الولاية من عبد الله بن أبي السرح
ثم اغتصب قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الولاية من محمد بن أبي حذيفة ، وولي عليها الأشتر مالك بن الحارث النخعي ، ومات قبل أن يصلها في قرية الألج ، كانت بعيدة عن الفسطاط .
وتولاها محمد بن أبي بكر ، بعد الأشتر ، ثم أرسل معاوية عمر بن العاص إلى مصر مرة أخرى ، وحبس محمد بن أبي بكر وانتهت بمقتله .
وبرغم أن الموضوع أكبر من أن تحتويه قصيدة ، إلا أن الشاعر صلاح يوسف أوجزه ، بملامح وإشارات ، تفي معرفة فترة تاريخية ، بأحداثها المهمة .
واستقر الحكم لمعاوية بن ابي سفيان بتنازل الحسن بن علي بعد وفاة والده ، وتوقفت الحرب الأهلية التي استمرت خمس سنوات ، ورتب معاوية الحكم من بعده لابنه يزيد يرثها من بعده ، واستمرت الدولة الأموية تسعين عاما وانتقل الحكم الى أبناء عمهم العباسيين بعد معركة بين الأمويين والعباسيين ، انتهت بهزيمة الأمويين .
وتبدأ الخلافة العباسية بأبي عباس السفاح ، ثم انتقلت لأخيه أبو جعفر المنصور ، ومضت الخلافة في ذريته ، واستمرت دولة العباسيين خمسمائة سنة ، ولكن الدولة الإسلامية لم تستمر موحدة ، فقد أنشأ الأمويون دولة جديدة في الأندلس ، عندما تمكن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الملك من الفرار إلى الأندلس وأقام دولة أموية هناك .
ومن الحكم العربي الراشدي ، إلى الأموي ، فالعباسي ، فالطولوني ، والعباسي مرة ثانية ، فالإخشيدي ، فالفاطمي ، فالأيوبي ، فالمماليك ، أحمد بن طولون ، فالعثمانيون ، فالمماليك مرة أخرى ، على يد علي بك الكبير ومحمد أبو الدهب ، مراد بك ، إبراهيم بك، حتى قدوم الفرنجة عام 1798م ، ثم احتلال عثماني 1801م ، ثم تأتي الأسرة العلوية ، وهي سلالة مصرية ذات أصول ألبانية ، أسسها محمد على باشا 1805م ، من الباشوات والخديوات من نواب السلطان ، واستقل بمصر ، وحقق محمد علي باشا نهضة في التعليم والزراعة والصناعة ، وتمكن حفيده اسماعيل ، أن يستقل بمصر ، وواصل الخديو توفيق ، ثم حفيده عباس حلمي ، وعلى هذا الطريق استكمل بناء الدولة الحديثة ، وبسبب المشاريع الضخمة مثل قناة السويس ، وفتح السودان ، وبناء السكك الحديدية ، والمتاحف ، ومحاولة تقليد النظام الأوروبي الحضاري ، أصبحت مصر مدينة بأموال ضخمة لكبرى القوى الأوروبية ، ( فرنسا وانجلترا ) وكان السبب المباشر لدخول القوات البريطانية إلى مصر 1882 ، ثم أصبحت منذ عام 1914م تحت الحماية البريطانية ، وقامت العديد من الثورات الشعبية ، وأصبحت مصر سلطنة ويحكم حسين كامل ، وفؤاد الأول ، حتى معاهدة 1936 ، وانتهى عهد الملكية في مصر بقيام ثورة 1952 م والإطاحة بالملك فاروق ، وإصبحت مصر ، جمهورية مصر ، بقيادة اللواء محمد نجيب ، وكانت نهاية حكم الأسرة العلوية 18 يوليو 1953م ، ثم يأتي الزعيم جمال عبد الناصر ، ثم يشير الشاعر إلى عصر النصر ، فالسلام ، ثم الثورة .
ونعود إلى سياق التسلسل الذي بدأناه سالفا ، وفي عصر الفاطميين لأظهار جماليات هذه الحقبة الزمنية ، وهو ما زال يجلس على الفيشاوي ، وليل البلاد حزنان ، ورغم ذلك يهدهد قلبها ، ” فمتخافيش يا حبيبتي ” ، نجده ينادي ، ” يا فاطمه الزهراء / ويا قلب قلب النبي / روح الحسين بتهتف / والأمل في طلعة الصباح الفتاح ” ، وينتقل إلى زمن المعز لدين الله الفاطمي ، وبعد السكون والدم الطري على الملامح ، يأتي الأمل ” فوقي يا مصر وزغرطي ، باستقبال رأس الحسين ، برغم الأحزان التي غمت الناس ، إلا أن الخير في بشرى النبي له بالجنة . ويأفل نجم الأخشيدي ، ويجيء زمن جوهر الصقلي ، وبناء الجامع الأزهر ، وفي عهدهم تزينت القاهرة الفاطمية . لقد أحسن الشاعر طرح المشهد الذي صور استقبال المصريين ، لآل بيت النبي ، ومن يفعل ذلك غير الشعب المصري المحب لله ورسوله وآل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه .
وأما عن فترة المماليك ، فكانت أهم ملامح هذه الفترة ، هو استقدام الخليفة العباسي ، المعتصم بالله جنود تركمان ، ووضعهم في الجيش ، كي يعزز مكانته ، بعد فقد الثقة في العرب والفرس ، التي قامت عليهم الدولة العباسية ، ولقد شجع الخلفاء والحكام آخرين في جلب المماليك . وقامت هذه الفترة على سيف الدين برقوق ، وعز الدين أيبك ، وطومان باي ، أما عن شجرة الدر ، فقد كانت جارية حررها السلطان الصالح نجم الدين أيوب ، وتزوجها ، ولمّا مات تزوجها عز الدين أيبك ، وشاركت أيبك الحكم ، وماتت بضرب القباقيب ، وفي هذه الآونة كان سيف الدين قطز الذي تولى بعد وفاة عز الدين أيبك ، وقهر قطز والظاهر بيبرس التتار المغول في عين جالوت ، ولم يكن من الغريب ، أن تعرّف مماليك صلاح الدين الأيوبي بالمماليك الصالحية ، ولقب بالملك الناصر ، وتحرر القدس والمسجد الأقصى على يديه بهزيمة الصليبيين ، أما عن انتهاء مملكة المماليك ، على يد سليم الأول العثماني ، بهزيمة السلطان طومان باي .
وعند عبد الناصر والثورة وبداية حكم المصريون لبلدهم ، ورغم جنون الإعداء الذين توحدوا بعدوانهم الثلاثي ، ( انجلترا ، فرنسا ، إسرائيل ) لضرب مصر ، إلا أن الزعيم جمال عبد الناصر ، يأمم قناة السويس ، وينتصر المصريون على الأعداء في بورسعيد الباسلة ، وفي قوة وتحدي تبني مصر السد العالي ، برغم تخلي الإمريكان ، ورفض صندوق النقد الدولي تمويل السد ، تم بنائه بدعم الروس ، وتُبنى المصانع وتزدهر الصناعة المصرية ، وتُمّلك الأراضي للفلاحين ، ويقضى على الإقطاع والرأسمالية والاحتكار ، وكيف تنعم مصر بحريتها في ظل العيون المتربصة لها ، فاعتدت إسرائيل على أرض سيناء واغتصبتها ، وانتكست مصر في 67 ، ولن يقبل الشعب المصري تنحي عبد الناصر ، وخرج عن بكرة أبيه يرفض التنحي ، وتبدأ حرب الاستنزاف ، التي كبدت أسرائيل من جنودها وعتادها الكثير ، وينتقل الحكم إلى السادات بعد موت عبد الناصر ، ويأخذ قرار الحرب ، وفي اكتوبر 1973م يسترد جيش مصر أرض سيناء من الإسرائليين في حرب الست ساعات ، ويُغتال السادات رجل الحرب والسلام ، ويعلن الشاعر عن موقفه السياسي ، بأنه مع السلام ، ولكن يرفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي ، ويحكم مبارك مصر أكثر من ثلاثين عاما ، وتقوم ثورتان أطاحتا بحكمه ، وينعي الشاعر زمان ، وله الحق فيما يراه ، حيث يطرح رؤيته وموقفه ، وما وصلت إليه الأحوال ، في مقطع شعري بدلالة المعنى .. وفين القمح والمصنع / وفين زرعي اللي كان أخضر / واحشنا يا قصب سكر / وفين القطن أبو تيله / وجاب النيل بدال الطمي جاب نيله / وعيشه ماشيه بالتيله / وكتاني وبستاني / وايد شقيانه علشاني / يا جيل يتحالا بالتاتوه / وبالبوكسر / وراح صلبي وبان غلبي / وفين المصنع الحربي / رجال أعمال وجايه في زمن أغبر / جواز المال مع السلطه / بقت سلطه .. إلى آخر التحولات والإسقاطات التي ساقها في هذه القصيدة بعين الناقد السياسي ، والتي عبر فيها عن اقتحام الثقافة الغربية ، وتأثيرها على الشباب ، وانحلال الأخلاق ، بضياع الدين ..!!
ولكن وبرغم كل هذا يجعل مصر تتحدث عن نفسها في أروع ما تقدمه من عظمة وفخر وأمل لا ينقطع .. فيقول بلسانها ( طول عمري صالبه الضهر قدام الطاغوت / فرعون غرق من نظرتي وموسى ما خاف / وانا كنت روح موسى في السبع العجاف / العدرا ظاهره بروح محبه للعدّى وقال عواف / هزت في جذع النخله طابت م الرطب / ضمت وليدها تبل ريقه م الجفاف / نور النخيل لما لمحته أهدته هاجر / أم الطهاره والعفاف / أم اسماعيل اللي صدق / زمزم بتحضن كفها والخوف مرق / والمصطفى م الضلمه قام شرق / طول عمري عزه ومجد / فخر وكبرياء / من أي داء أو ابتلاء / بصلب في عودي ما هانتني / انا عمري ما اضعف واستكين ولا هانحني / ولا فيه عدو هيشقني / أنا مصر …. فخر …. لكل عصر بدون حدود …. بشهامه …. أرفع راسي …. بولادي الجنود / يكفيني …. الله الغني . ويختار .. ( أنا مصر / فخر لكل عصر بدون حدود / بشهامه / ارفع راسي / بولادي الجنود / يكفيني / الله الغني ) .. ليكون اللازمة والمرّجع الرائد والذي يختم به الكثير من الحكايات.
ولأن كل تجريب يحتاج إلى وعي ، والوعي تسبقه قراءة واطلاع ، فقد وفق صلاح يوسف في أحاسيسه ومشاعره ، وهو يكتب الرومانسية ، وأيضاً وفق في استدعاء تلك الأحداث العظيمة من الماضي السحيق ، في تجربة فريدة ، هي الملحمة التي أراد تقديمها للمكتبة المصرية والعربية ، فهي قصيدة طويلة لو أننا حذفنا العناوين ، تحكي مسيرة أو سيرة تاريخية ، مشحونة بالأحداث ، التي أحدثت تحولات غيرت وجه التاريخ ، ووضعت مصر على مشارف كل مرحلة من السكون للحركة ، ومن الحركة للسكون ، تغير وجه الولايات والحكام ، وأوجه البلاد ، والنفوس البشرية ، والصراعات على الحكم ، كما أن التجربة أفادت بأن مصر دائما تترصدها عيون الأعداء ، كما أوضحت ، ولمدى أهمية موقعها الجغرافي والتاريخي والاستراتيجي / في ملتقى قارات العالم ، فهي ملتقى أفريقيا وأسيا ، وقريبة من السواحل الأوروبية ، وأهمية قناة السويس كما ذكرنا سالفا ، والتي تربط بين الشرق والغرب ، وغزاها الفرس والرومان والبطالمة ، وهي تحتضن العديد من الحضارات ، المصرية القديمة ، واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية ، وهي وحدها تمتلك ثلث آثار العالم ، وهي الساحرة بطبيعتها الجميلة ، وتُحسد مصر من أجل عظمتها وتاريخها .
والحقيقة أنني حين أردت الاستشهاد بمقاطع شعرية لسردي التاريخي المنبثق من حكاوي صلاح يوسف ، وجدت أنني يجب ويلزم الاستشهاد بكل ما كتبه الشاعر ، بمعني أن أستشهد بالديوان كله ، وكان من الصعوبة ، وكان ميلي إلي هذه الطريقة النسقية لقصائد الديوان في الوصف والشرح والتحليل على قدر ما ألهمني الله ، وبقدر ثقافة متواضعة لمواكبة هذا الزخم الرائد في هذه الملحمة .
ولقد أحسن الشاعر استخدام السطر الشعري الذي ينطق بالإيقاع المتسق مع الفكر والأنفعال والإدراك الحسي ، ويتجسد كل هذا في البناء الإيقاعي ، مع اتساق المفردات ، ليتضح من خلال هذا إظهار الدلالة والغاية . وعلى سبيل المثال لا الحصر يقول : ” ولادي دنيتي وبيتي / بنيتهم طوبه فوق طوبه / في عز البرد في طوبه / وليه يا دنيا معطوبه / وتييجي عندي مقلوبه / برغم الشرخ في قلبي / وبرضه العفه مطلوبه / وأمري جي من ربي / ينوّر في الأمور دربي / وعمري ساقيه بتدور بي/ هاتفضل عزتي قامه “.
وبرغم أن هذه الدراسة أرهقتني بمتابعة هذا الحشد التاريخي لفترات امتلأت بالأحداث المتباينة والمتغيرة التي غيرت أوجه الحياة في تلك العصور في مصر ، إلا أننى سعدت بالسياحة في عالم الديوان / الملحمة للشاعر صلاح يوسف . وأتمنى له الانتقال إلى تحفة أدبية أخرى ، لإثراء المكتبة المصرية والعربية .
الكاتب الصحفي
نبيل مصيلحي
عضو اتحاد كتاب مصر
صباح الجمعة 11 من نوفمبر 2022 م