بقلم / د: احلام غانم
إن البوليفونية هي سمة من سمات السرد القصصي ونوع حديث للسرد الأدبي الذي يفسر الواقع من عدة وجهات نظر متراكبة في آن واحد .
حيث رأى” ( ارثر فرانك ) :”يمكن فهمها على انها حضور اصوات في صوت واحد بحيث يكون صوت المتكلم صدى لأصوات اخرى ”
فعندما يروي الجرح أشجار القلب ،يقترب هاجس السؤال الخارجي من الجرح الداخلي للكاتب ، عندها تنبتُ أكثر التصاقاً بالتراب ،وأكثر ارتقاءً بسماء الوجد ،وأعالي المعايير والقيم .
هذا يعطي الكاتب جواب القدرة الاندماجية التركيبة في إيجاد اللغة التي تقارب المؤثرات، التي تنتمي لمناطق تخيله ، والتي تعطيه زخماً جديداً للتفاعل مع ما يعيشه من مشاعر عميقة ، ومع ما تطلقه أحاسيسه عبر انطلاقات تفجر عنده التصور الإدراكي لما يشعره من اختلاق الأزمة الداخلية، التي تعطيه أبعاداً تخيلية تواكب هذه الأزمة التي نشأت من تصادم الثابت عند الأديب وما يحيطه من تحول.
هذا يحرك لسان البوح بما يلهمه الحظ أن يقص الأثر ،و مالا يظهر من جرح الماء ،و ذلك لبيان أن النصوص السردية عموماً تقوم، كما قرّر “باختين “على شبكة من الأصوات المختلفة، بل المتنافسة في الغالب،حتى وإن لم تكن لتلك الأصوات المنزلة نفسها أو الظهور نفسه،من الناحية الأنطولوجية والمجازية.
ويلح السؤال عليَّ ضمن ضجيج وصخب ما يسمى بين قوسين ( ثورات ..) ..من أين ألج إلى “جرح الماء… ووجدت نفسي بين “نهايتين” قبل أن أبدأ بمصافحة ماء القلب وتقصي “الخبر ” ..لذلك ، كيف لي إعادة إحياء أو التقاط الصدى المتواري خلف هذه العناوين ؟
من أي العتبات أتسلل كي لا أحترق في ماء الأديبة د.مريم كما يحترق بخور الكلام من شعاع المعنى أو كي لا أتجمد كما يتجمد الماء ،إذ لا مجال للهروب ، المصير واحد في الغليان والتجمد عندما يُجْرَحُ الماء؟.
كيف يمكن للأديبة أن تنهض من تحت أنقاض الخراب الروحي و تكسر جليد التجمد و تبدد وهم الخطيئة الأبدية؟ ثم ما الذي تحجبه اللغة السومريّة ؟. هل ثمة أنغام يحيلها الفراغ على مملكة الماء كي تصابَ بداء البوح أو الصمت وتعلقنا بها بين السماء والأرض ؟.
ما المصير ؟ الجواب تستعيره الأديبة د.مريم كي تحفز ذهن القارئ لالتقاط شارات اللغة الجمالية التي انطلقت منها وبأسلوب محنك تخفي صوتها عن الأحداث ،فتندمجُ في ماء الحياة اهتداءً بقول ديستويفسكي: (إن الجمال سينقذ العالم) حاولت أن تجذبنا عبر لغة الجمال وتوفير المصدات الحيوية من العواصف الخارجية ،ويظهر هذا المقطع التالي جمالية اللغة السماوية التي ضمت إليها جميع أنغام البشر:
” (إنّ للجمال لغة سماوية تترفّع عن الأصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والألسنة، لغة خالدة تضّم إليها جميع أنغام البشر تجعلها شعوراً صامتاً مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقها وتجعلها سكوتاً أبدياً).”
ويحضر السؤال :هل يمكننا أن نتجاوز العنوان في النص الأدبي؟
وبناء عليه، فإنّنا لا نذيع سرّا ولا نسوق جهرا، إن نحن قلنا إنّ البؤرة العنوانيّة تتناصّ مع اسم المؤلّفة من ناحية، ومع المتن النصّي من ناحية أخرى، وأنّ بين العنوان واسم المؤلّفة شجرة نسب مريمية وصلة قربى لا يبادر إلى وصلها إلا عارف ولا إلى قطعها إلا جاهل..
منذ العنوان «جرح الماء» نصطدم بإشكال العلاقة بين الصوت السردي (من يتحدث؟) والخطاب؛ فالصوت السردي يرتبط بالساردة والشخصية، بينما الخطاب يرتبط بالسلطة وبالجماعة التي تملك سلطة إنتاج الخطاب والقدرة على بثِّه وفرضه في المجتمع؛ فليس كل صوت يصنع خطاباً، لكن كل صوت لابد أن يندرج ضمن خطاب يستمد منه رؤيته وقيمه وسلطته.
يتبين لنا أنه عنوان صادم منفلت، يكسر أفق توقع القارئ المستعجل، لأنه عنوان صعب القبض على دلالته الصريحة دون العودة إليه بعد قراءة النصوص إذ، أن علاقة العنوان بالنصوص علاقة تفاعلية وجدلية…
نجد الأديبة د. مريم الترك في مجموعتها ( جرح الماء ) تمتلك القدرة على جعل من رموزها الموحية بالدلالات ضمن المعنى الذي تريد أن تصل إليه دون الابتعاد عن مساحة التعبير الكامنة في هذه الإرهاصات لوجدانية فكرتها ورموزها وتناصها القرآني:”وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حي أفلا تؤمنون “.
في هذه المجموعة القصصية يكشف لنا العنوان(جرح الماء) المعنى الكامن في النصوص والمحمولات الدلالية للماء في ظل ذلك و في السياق عينه تم تقديمها من قبل الأستاذ والمفكر طارق لحمادي :” إنّ نصوصها تفحص الإنسان من داخله، فتنزل أعمق أعماقه، وتستبيح كل نبضة في قلبه، وترقب كل خلجة في نفسه، وتتأمل كل بارقة في روحه، وتلحظ كل دويّ داخلي يصطخب في لا وعيه.”
قد يبدو للقارئ إن النصوص المكتوبة بصيغة “الأنا” ما هي إلا مذكرات “البيت القديم ” ، ثم تدخل لتقنع الذات بما يتوصل له القارئ ، ومزج الذكريات بالشعور المكبوت بالغربة فتقول :
“فرح، أنا فرح بنت عبود
فرح! ما شاء الله كبرتِ يا ابنتي
استغرقتْ في تأمل حالم، لا أعرف ما الذي دار بينها وبين نفسها، لكن الكبر بدا على بنيانها المتهالك
اشتكتْ من أمراض كثيرة، الروماتيزم، السّكّري، ضغط الدم، وعدّدت بيد واهنة، وبأصابع شاحبة من هجرها من الأبناء”.
يصل التعبير عن الاغتراب إلى مداه الأقصى في قصة “الجارة ” ويرتفع صدى الأسلوب الناجع لكشف النقص في صميم الحياة من استشراء الوحشة والمرض والظلم وانعدام الألفة، بين الإنسان ومحيطه.
وإضفاء الطاقة الحيوية والصفات الإنسانية على الأشياء، في مقابل إظهار تشيّئ الإنسان وافتقاره للحرية وفقدانه السلطة على مصيره الفردي.
وإذا كان جونيت قد ميّز التبئير في قوله :” لا يقتصر على حاسة البصر بل يشمل جميع الحواس.. “والمقصود به عمليّة جعل العنصر أو المكوِّن بؤرةً في الكلام .. عندما نتابع أفكار مريم ومشاعرها يبدو لنا كيف تسهم في صنع الحدث/الصوت بالسؤال دون أجوبة أحيانا و كيف تحدد سيرورته أحياناً أخرى.
ونلتقط الصدى الداخلي بصوت ” قشرة الكستناء” فتبدو كيف تناولت الحدث الواحد من بؤر متعددة، وكيف استهلّتها بالسؤال الآني”:
” من أين تأتي هذه الأصوات؟ فولدي قد خلد إلى نومه في وقت مبكر، وأنا وحيدة في البيت، أرهفتُ السمع أكثر، ها هي الأصوات تتناهى إليّ من غرفة المعيشة، نهضتُ أمشي إليها على خوفي باحثة عن مصدرها، وأنا لا أكاد أصدّق ما يحدثُ، فتحتُ باب الغرفة فتراءى جمعهم وقد اقتعدوا الأرض على شكل حلقة”.
شُغِلَتْ القاصّةُ اللبنانيةُّ د. مريم الترك برصد المكانِ باعتباره وعاء فكرياً يلعب دوراً فاعلاً في تشكيل الذاكرةِ الجماعيةِ للمنتمين إليه، وعُنيت برصدِ تجلياتِ الصوت في فضاءِ السَّرْدِ البيلوفوني، وموقفِ شخوصِها منه رفضاً وقبولاً، تمرُّداً وخنوعاً، وهي عنايةٌ تجلّت ، وبدتْ عبرَ صورٍ متعددة وأطوارٍ فنيةٍ متعاقبة ..
تعددت الوسائلُ التي اتكأت عليها الأديبة في رصدها للمكان وتوظيفه، وقد تأرجحت في رصدها للمكان بين الرصد الذاتي وبين توظيفها عنصراً فاعلاً في خَلْقِ الحدث ونموِّه، فراحت ترصده رصداً بصرياً عبر صوت (القطار)، وقد تتعدد الحواس الراصدة لمفرداتها:
” امتد بصري نحو الخلاء البعيد باحثا عن لحظة هروب مما أنا فيه، ردّني إلى فضاء القطار صوت امرأة بدينة، بدا الأمر في أوله كأنس يقع بين اثنين، ثم علا الصوت وتداخل، ذاب صوت رجولي خجول في سباب أنثوي مرّ.”
القاصة د.مريم الترك تفهم كيف تتعلق بالمكان وتعلق القارئ بها وبالمكان وتؤنسن حتى رائحة الزهور وحركة الطيور والحروف.
فقد جاء “القطار ” شاهدا حيا حمل في أحشائه معاني الزمن /الهوية /الحركة والرصد في الحياة.. وحاملاً الزمان في القصة وانصهر به فيبدو لنا كفعل واسم وباعث للزمن ،من حيث الفعل الدال والاسم المدلول ، ومن حيث عنصر الباعث (الوقت هو الموضوع الباعث للدال والمدلول).
ومن قصة (جرح الماء ) التي جعلت منها عنواناً لمجموعتها، تقوم الكاتبة بمراوغة ماكرة ومزدوجة، وتمارس لعبةً سردية عن الغياب في الحضور والحضور في الغياب.. ففي نصها المراوغ هذا يبدو الموضوع المباشر أليفاً وحاضراً، لكننا في ثنايا “الصدى ” نجد إشارات كثيرة إلى الحضور رغم الغياب.
حتى تفاجئنا بصوتها المخنوق عبر “الصدى “: “تبكي عفاف بصوت مخنوق، يلفّ ضباب الجهل وجه الحقيقة، أحسّ بالصدأ يشتعل في كل شيء حولي، تتراجع تغريدة عصفور حطّ على شرفتي وطار بسرعة الفزع، تتهادى إليّ الأفكار كربّات الحكمة
– لن أكون عفافاً أخرى، لن أجعل من نفسي سجادة تدوسها الأحذية، أو وعاءً لحفظ سلالة رجل.”
ما يلفت الانتباه في هذه القصة هو هذا الانزياح الخافت والتدريجي للشخصية الرئيسة فيها، فالكاتبة هنا ليست في حيرة من التنافس بينهما على الأفضلية، فهي تبحث عن تلك الذات المفقودة عن تلك التي وقعت ضحية قوى خفية وتحت رحمة عبثيتها، وأصواتها الهادرة في أعماق الكون التي جعلت الإنسان يعاني من محنة الازدواج الوجودي.
وهذا الازدواج يبدو جليا لها ،لأنها تدرك أن المشكلة كامنة في التناقضات التي تحكم مفاهيم ومصطلحات الحياة ذاتها، كأنها ” امرأتان في محطة ” تتداخل أصواتها الداخلية مع ، أ صوات الحشود البشرية المتزاحمة وتشغلنا في تلك الأسئلة الأزلية، التي تحكمت بالنفس والوعي الإنساني ورغم أن القلق يتقاذفها كورقة خريف في يد الرّيح، ورغم ما يعتلي وجهها من حيرة، تكابر في إظهار أوجاعها، لينقذنا صوت هيغل:
(ذلك أنّ هذه الأشكال والأصوات المحسوسة لا تمثُل في الفنّ لأجل ذاتها وشكلها وحسب، بل تهدف إلى أن تلبّي في هذا الشكل شواغل روحية أرفع لأنّ بمقدورها أن تبعث صدى للروح في أعمق أعماق الوعي. على هذا النحو يُرَوْحَنُ الحسّيُ في الفن بما أنّ الروحي يظّهر فيه على أنّه صار محسوساً.) (*) ويغيب صوت مريم ليحضر التناص القرآني عبرصوت البيان في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
لنصل إلى ملاك القول :المتتّبع لأشكال التبئير، التي صاغت بوساطتها، وعبرها، د. الترك الموادّ الحكائية لنصوص مجموعتها: “جرح الماء”، يخلص إلى أنّ النصوص جميعاً ترتهن إلى ما يبدو الساردة فيه مساويةً للشخصية الحكائية تماماً، أو ما يسمّيه “تودوروف”: “الرؤية مع” (vision avec) أو “الرؤية المحايثة”.(**)
والتي تنهض بمهمّة التعبير عن ماء القصّ والمغزى من التوحد في “جرح الماء”،وعن كفاءتها أيضاً في إنتاج نص سردي لتمزّق الذات بين واقعين يتضادّان سراً، ويتآزران جهراً ..ويصبح رقراقاً كالماء المتدفق من بازلت القلب.
ــــــــــــــــ
(*)هيغل، دروس في الاستطيقا، المجلّد الأوّل، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، منشورات الجمل 2014، (ص67).
(**)ـ تودورف، تزيفيتان. “الأدب والدلالة”. ص (78). ويستخدم “توماتشفسكي” تعبير “السرد الذاتي” لـهذا النوع من أشكال التبئير.
إن البوليفونية هي سمة من سمات السرد القصصي ونوع حديث للسرد الأدبي الذي يفسر الواقع من عدة وجهات نظر متراكبة في آن واحد .
حيث رأى” ( ارثر فرانك ) :”يمكن فهمها على انها حضور اصوات في صوت واحد بحيث يكون صوت المتكلم صدى لأصوات اخرى ”
فعندما يروي الجرح أشجار القلب ،يقترب هاجس السؤال الخارجي من الجرح الداخلي للكاتب ، عندها تنبتُ أكثر التصاقاً بالتراب ،وأكثر ارتقاءً بسماء الوجد ،وأعالي المعايير والقيم .
هذا يعطي الكاتب جواب القدرة الاندماجية التركيبة في إيجاد اللغة التي تقارب المؤثرات، التي تنتمي لمناطق تخيله ، والتي تعطيه زخماً جديداً للتفاعل مع ما يعيشه من مشاعر عميقة ، ومع ما تطلقه أحاسيسه عبر انطلاقات تفجر عنده التصور الإدراكي لما يشعره من اختلاق الأزمة الداخلية، التي تعطيه أبعاداً تخيلية تواكب هذه الأزمة التي نشأت من تصادم الثابت عند الأديب وما يحيطه من تحول.
هذا يحرك لسان البوح بما يلهمه الحظ أن يقص الأثر ،و مالا يظهر من جرح الماء ،و ذلك لبيان أن النصوص السردية عموماً تقوم، كما قرّر “باختين “على شبكة من الأصوات المختلفة، بل المتنافسة في الغالب،حتى وإن لم تكن لتلك الأصوات المنزلة نفسها أو الظهور نفسه،من الناحية الأنطولوجية والمجازية.
ويلح السؤال عليَّ ضمن ضجيج وصخب ما يسمى بين قوسين ( ثورات ..) ..من أين ألج إلى “جرح الماء… ووجدت نفسي بين “نهايتين” قبل أن أبدأ بمصافحة ماء القلب وتقصي “الخبر ” ..لذلك ، كيف لي إعادة إحياء أو التقاط الصدى المتواري خلف هذه العناوين ؟
من أي العتبات أتسلل كي لا أحترق في ماء الأديبة د.مريم كما يحترق بخور الكلام من شعاع المعنى أو كي لا أتجمد كما يتجمد الماء ،إذ لا مجال للهروب ، المصير واحد في الغليان والتجمد عندما يُجْرَحُ الماء؟.
كيف يمكن للأديبة أن تنهض من تحت أنقاض الخراب الروحي و تكسر جليد التجمد و تبدد وهم الخطيئة الأبدية؟ ثم ما الذي تحجبه اللغة السومريّة ؟. هل ثمة أنغام يحيلها الفراغ على مملكة الماء كي تصابَ بداء البوح أو الصمت وتعلقنا بها بين السماء والأرض ؟.
ما المصير ؟ الجواب تستعيره الأديبة د.مريم كي تحفز ذهن القارئ لالتقاط شارات اللغة الجمالية التي انطلقت منها وبأسلوب محنك تخفي صوتها عن الأحداث ،فتندمجُ في ماء الحياة اهتداءً بقول ديستويفسكي: (إن الجمال سينقذ العالم) حاولت أن تجذبنا عبر لغة الجمال وتوفير المصدات الحيوية من العواصف الخارجية ،ويظهر هذا المقطع التالي جمالية اللغة السماوية التي ضمت إليها جميع أنغام البشر:
” (إنّ للجمال لغة سماوية تترفّع عن الأصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والألسنة، لغة خالدة تضّم إليها جميع أنغام البشر تجعلها شعوراً صامتاً مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقها وتجعلها سكوتاً أبدياً).”
ويحضر السؤال :هل يمكننا أن نتجاوز العنوان في النص الأدبي؟
وبناء عليه، فإنّنا لا نذيع سرّا ولا نسوق جهرا، إن نحن قلنا إنّ البؤرة العنوانيّة تتناصّ مع اسم المؤلّفة من ناحية، ومع المتن النصّي من ناحية أخرى، وأنّ بين العنوان واسم المؤلّفة شجرة نسب مريمية وصلة قربى لا يبادر إلى وصلها إلا عارف ولا إلى قطعها إلا جاهل..
منذ العنوان «جرح الماء» نصطدم بإشكال العلاقة بين الصوت السردي (من يتحدث؟) والخطاب؛ فالصوت السردي يرتبط بالساردة والشخصية، بينما الخطاب يرتبط بالسلطة وبالجماعة التي تملك سلطة إنتاج الخطاب والقدرة على بثِّه وفرضه في المجتمع؛ فليس كل صوت يصنع خطاباً، لكن كل صوت لابد أن يندرج ضمن خطاب يستمد منه رؤيته وقيمه وسلطته.
يتبين لنا أنه عنوان صادم منفلت، يكسر أفق توقع القارئ المستعجل، لأنه عنوان صعب القبض على دلالته الصريحة دون العودة إليه بعد قراءة النصوص إذ، أن علاقة العنوان بالنصوص علاقة تفاعلية وجدلية…
نجد الأديبة د. مريم الترك في مجموعتها ( جرح الماء ) تمتلك القدرة على جعل من رموزها الموحية بالدلالات ضمن المعنى الذي تريد أن تصل إليه دون الابتعاد عن مساحة التعبير الكامنة في هذه الإرهاصات لوجدانية فكرتها ورموزها وتناصها القرآني:”وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حي أفلا تؤمنون “.
في هذه المجموعة القصصية يكشف لنا العنوان(جرح الماء) المعنى الكامن في النصوص والمحمولات الدلالية للماء في ظل ذلك و في السياق عينه تم تقديمها من قبل الأستاذ والمفكر طارق لحمادي :” إنّ نصوصها تفحص الإنسان من داخله، فتنزل أعمق أعماقه، وتستبيح كل نبضة في قلبه، وترقب كل خلجة في نفسه، وتتأمل كل بارقة في روحه، وتلحظ كل دويّ داخلي يصطخب في لا وعيه.”
قد يبدو للقارئ إن النصوص المكتوبة بصيغة “الأنا” ما هي إلا مذكرات “البيت القديم ” ، ثم تدخل لتقنع الذات بما يتوصل له القارئ ، ومزج الذكريات بالشعور المكبوت بالغربة فتقول :
“فرح، أنا فرح بنت عبود
فرح! ما شاء الله كبرتِ يا ابنتي
استغرقتْ في تأمل حالم، لا أعرف ما الذي دار بينها وبين نفسها، لكن الكبر بدا على بنيانها المتهالك
اشتكتْ من أمراض كثيرة، الروماتيزم، السّكّري، ضغط الدم، وعدّدت بيد واهنة، وبأصابع شاحبة من هجرها من الأبناء”.
يصل التعبير عن الاغتراب إلى مداه الأقصى في قصة “الجارة ” ويرتفع صدى الأسلوب الناجع لكشف النقص في صميم الحياة من استشراء الوحشة والمرض والظلم وانعدام الألفة، بين الإنسان ومحيطه.
وإضفاء الطاقة الحيوية والصفات الإنسانية على الأشياء، في مقابل إظهار تشيّئ الإنسان وافتقاره للحرية وفقدانه السلطة على مصيره الفردي.
وإذا كان جونيت قد ميّز التبئير في قوله :” لا يقتصر على حاسة البصر بل يشمل جميع الحواس.. “والمقصود به عمليّة جعل العنصر أو المكوِّن بؤرةً في الكلام .. عندما نتابع أفكار مريم ومشاعرها يبدو لنا كيف تسهم في صنع الحدث/الصوت بالسؤال دون أجوبة أحيانا و كيف تحدد سيرورته أحياناً أخرى.
ونلتقط الصدى الداخلي بصوت ” قشرة الكستناء” فتبدو كيف تناولت الحدث الواحد من بؤر متعددة، وكيف استهلّتها بالسؤال الآني”:
” من أين تأتي هذه الأصوات؟ فولدي قد خلد إلى نومه في وقت مبكر، وأنا وحيدة في البيت، أرهفتُ السمع أكثر، ها هي الأصوات تتناهى إليّ من غرفة المعيشة، نهضتُ أمشي إليها على خوفي باحثة عن مصدرها، وأنا لا أكاد أصدّق ما يحدثُ، فتحتُ باب الغرفة فتراءى جمعهم وقد اقتعدوا الأرض على شكل حلقة”.
شُغِلَتْ القاصّةُ اللبنانيةُّ د. مريم الترك برصد المكانِ باعتباره وعاء فكرياً يلعب دوراً فاعلاً في تشكيل الذاكرةِ الجماعيةِ للمنتمين إليه، وعُنيت برصدِ تجلياتِ الصوت في فضاءِ السَّرْدِ البيلوفوني، وموقفِ شخوصِها منه رفضاً وقبولاً، تمرُّداً وخنوعاً، وهي عنايةٌ تجلّت ، وبدتْ عبرَ صورٍ متعددة وأطوارٍ فنيةٍ متعاقبة ..
تعددت الوسائلُ التي اتكأت عليها الأديبة في رصدها للمكان وتوظيفه، وقد تأرجحت في رصدها للمكان بين الرصد الذاتي وبين توظيفها عنصراً فاعلاً في خَلْقِ الحدث ونموِّه، فراحت ترصده رصداً بصرياً عبر صوت (القطار)، وقد تتعدد الحواس الراصدة لمفرداتها:
” امتد بصري نحو الخلاء البعيد باحثا عن لحظة هروب مما أنا فيه، ردّني إلى فضاء القطار صوت امرأة بدينة، بدا الأمر في أوله كأنس يقع بين اثنين، ثم علا الصوت وتداخل، ذاب صوت رجولي خجول في سباب أنثوي مرّ.”
القاصة د.مريم الترك تفهم كيف تتعلق بالمكان وتعلق القارئ بها وبالمكان وتؤنسن حتى رائحة الزهور وحركة الطيور والحروف.
فقد جاء “القطار ” شاهدا حيا حمل في أحشائه معاني الزمن /الهوية /الحركة والرصد في الحياة.. وحاملاً الزمان في القصة وانصهر به فيبدو لنا كفعل واسم وباعث للزمن ،من حيث الفعل الدال والاسم المدلول ، ومن حيث عنصر الباعث (الوقت هو الموضوع الباعث للدال والمدلول).
ومن قصة (جرح الماء ) التي جعلت منها عنواناً لمجموعتها، تقوم الكاتبة بمراوغة ماكرة ومزدوجة، وتمارس لعبةً سردية عن الغياب في الحضور والحضور في الغياب.. ففي نصها المراوغ هذا يبدو الموضوع المباشر أليفاً وحاضراً، لكننا في ثنايا “الصدى ” نجد إشارات كثيرة إلى الحضور رغم الغياب.
حتى تفاجئنا بصوتها المخنوق عبر “الصدى “: “تبكي عفاف بصوت مخنوق، يلفّ ضباب الجهل وجه الحقيقة، أحسّ بالصدأ يشتعل في كل شيء حولي، تتراجع تغريدة عصفور حطّ على شرفتي وطار بسرعة الفزع، تتهادى إليّ الأفكار كربّات الحكمة
– لن أكون عفافاً أخرى، لن أجعل من نفسي سجادة تدوسها الأحذية، أو وعاءً لحفظ سلالة رجل.”
ما يلفت الانتباه في هذه القصة هو هذا الانزياح الخافت والتدريجي للشخصية الرئيسة فيها، فالكاتبة هنا ليست في حيرة من التنافس بينهما على الأفضلية، فهي تبحث عن تلك الذات المفقودة عن تلك التي وقعت ضحية قوى خفية وتحت رحمة عبثيتها، وأصواتها الهادرة في أعماق الكون التي جعلت الإنسان يعاني من محنة الازدواج الوجودي.
وهذا الازدواج يبدو جليا لها ،لأنها تدرك أن المشكلة كامنة في التناقضات التي تحكم مفاهيم ومصطلحات الحياة ذاتها، كأنها ” امرأتان في محطة ” تتداخل أصواتها الداخلية مع ، أ صوات الحشود البشرية المتزاحمة وتشغلنا في تلك الأسئلة الأزلية، التي تحكمت بالنفس والوعي الإنساني ورغم أن القلق يتقاذفها كورقة خريف في يد الرّيح، ورغم ما يعتلي وجهها من حيرة، تكابر في إظهار أوجاعها، لينقذنا صوت هيغل:
(ذلك أنّ هذه الأشكال والأصوات المحسوسة لا تمثُل في الفنّ لأجل ذاتها وشكلها وحسب، بل تهدف إلى أن تلبّي في هذا الشكل شواغل روحية أرفع لأنّ بمقدورها أن تبعث صدى للروح في أعمق أعماق الوعي. على هذا النحو يُرَوْحَنُ الحسّيُ في الفن بما أنّ الروحي يظّهر فيه على أنّه صار محسوساً.) (*) ويغيب صوت مريم ليحضر التناص القرآني عبرصوت البيان في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
لنصل إلى ملاك القول :المتتّبع لأشكال التبئير، التي صاغت بوساطتها، وعبرها، د. الترك الموادّ الحكائية لنصوص مجموعتها: “جرح الماء”، يخلص إلى أنّ النصوص جميعاً ترتهن إلى ما يبدو الساردة فيه مساويةً للشخصية الحكائية تماماً، أو ما يسمّيه “تودوروف”: “الرؤية مع” (vision avec) أو “الرؤية المحايثة”.(**)
والتي تنهض بمهمّة التعبير عن ماء القصّ والمغزى من التوحد في “جرح الماء”،وعن كفاءتها أيضاً في إنتاج نص سردي لتمزّق الذات بين واقعين يتضادّان سراً، ويتآزران جهراً ..ويصبح رقراقاً كالماء المتدفق من بازلت القلب.
ــــــــــــــــ
(*)هيغل، دروس في الاستطيقا، المجلّد الأوّل، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، منشورات الجمل 2014، (ص67).
(**)ـ تودورف، تزيفيتان. “الأدب والدلالة”. ص (78). ويستخدم “توماتشفسكي” تعبير “السرد الذاتي” لـهذا النوع من أشكال التبئير.