اللغة والمهددات الثقافية
مقال الكاتب: شريف مصطفي في مجلة تراث عدد 292 فبراير 2024
مهما تحدثنا عن اللغة وقدمنا أطروحاتنا حول واقعها ورؤيتنا لمستقبلها تبقى دائما هاجسا لا يمكن إبعاده عن تفكيرنا وإعادة طرح وتدوير هذه الإشكالية المؤثرة على الهوية الثقافية للمجتمع لأهميتها وأثرها المستدام على الحاضر والمستقبل.
اللغة هي العنصر الجامع لخبرات المجتمع الثقافية وتظل هي الغلاف الحامي لقلب هذه الثقافة. الثقافة هي أشبه بالكائن الحي يؤثر فيها التحولات المحيطة بها ولذلك لا بد أن نعي المهددات التي تحيط بالثقافة الإماراتية..
المهدد الأول: التعدد الثقافي الكبير في دولة الإمارات نتيجة الانفتاح على العالم وجاذبيتها الاقتصادية المتصاعدة انعكاسا لقوة الاقتصاد ومرونته والشفافية وقوة القانون كل ذلك ساهم في تدفق رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في الدولة وصاحبه تدفق العمالة الوافدة من مختلف دول العالم حتى أصبحت الإمارات مجتمعا كوزموبوليتاني وصارت الثقافة الإماراتية متداخلة مع الثقافات الوافدة متأثرة ومؤثرة. يبقى هذا مهددا لحدوث تحولات قد تبدأ بسيطة ولكنها مع التراكم ستصبح تحولات جذرية تحدث تشوها كبيرا في الثقافة ومنظومة القيم الإماراتية خاصة.
المهدد الثاني: يتمثل في شبكات التواصل الاجتماعي والفضاء الافتراضي والذي تكونت به ما يعرف بالمواطنة الافتراضية التي قد تبدو الحالة بسيطة وقد يظن البعض أن المواطنة الافتراضية مجرد نوع من الحالات المؤقتة سريعة الذوبان في موجة أو موضة جديدة تظهر ولكن واقعيا هذا تمنى لا واقع، لأن الواقع يقول أن تغلغل شبكات التواصل الاجتماعي في حياة الفرد وتحول الهاتف المحمول من مجرد أداة اتصال إلى بيئة حاضنة لكل نشاطات الفرد مع التطور المطرد لخوارزميات شبكات التواصل الاجتماعي كل ذلك ينبئ أن المواطنة الافتراضية تنمو وقد يأتي يوم تتحول إلى ثقب أسود يبتلع الثقافات كلها بما فيهم ثقافتنا الوطنية الإماراتية وتصبح الثقافة السائدة داخل المجتمع الإماراتي هي الثقافة الافتراضية التي يشكل ملامحها المسيطرين على شبكات التواصل الاجتماعي والمنظمين لمحتواها.
المهدد الثالث: هو الابتعاث لا بد أن ننتبه أن كل معطى إيجابي لا بد من وجود آثار جانبية له ومهمتنا أن نضع تلك الآثار في المشهد ونفهمها كي يمكن أن نضع الحلول لتجنبها مثل الوصفة الطبية الداخلية في الأدوية التي لا يمكن أن تغفل الآثار الجانبية إلى جوار الآثار الإيجابية للدواء … الابتعاث داعم كبير للقيمة المعرفية والعلمية والتطور في الدولة ودمج الحضارة الحديثة التي تبنيها دولة الإمارات العربية المتحدة في الحضارة الإنسانية وجعلها عنصرا فاعلا في التاريخ البشري. الأثر الجانبي هو تأثر المبتعث المحتمل بالثقافة الأخرى والتأثر في حد ذاته ليس خطرا بل هو قد يكون مفيدا لكن مكمن الخطورة في حجم ونوعية التأثر فحين يصل التأثر إلى مرحلة الشعور بضعف ثقافتنا يصل إلى مرحلة التحول والإيمان بأفكار الثقافة الجديدة بكل تفاصيلها ويصيب التحول هذا قلب سلم القيم الإماراتية هنا تكمن الخطورة والأثر الجانبي السلبي.
المهدد الرابع: المربيات، إن اعتماد الآباء إلى حد بعيد وأحيانا بشكل تام في تربية أبنائهم على مربيات هو مهدد حقيقي وأرى أنه المهدد الأقوى والأكثر تأثيرا وعنفا مع تغير الثقافة الوطنية فغالبية المربيات تأتي من ثقافة مغايرة تماما للثقافة الإماراتية ولا يمكن بأي حال تفادي تأثر الطفل بسلوكيات المربية وثقافتها فهذا أمر فطري وحتمي لا يمكن تجنبه وحين يعتمد الآباء بصورة كبيرة على المربيات تغيب قوة تأثير الأب والأم على مفاهيم وسلوكيات وسلم القيم الذي يتربى عليهم الطفل وحين ينتقل الطفل إلى المدرسة سيجد أيضا معلمة من ثقافة مختلفة ستؤثر في سلوكياته ومفاهيمه ثم يعود إلى المنزل تتلقفه المربية وهكذا يظل الطفل الإماراتي رهين الثقافات المختلفة في البيت والمدرسة والعالم الافتراضي.
علاقة هذا المهددات باللغة علاقة رئيسية وهذا التعدد الثقافي كان لا بد من إيجاد لغة وسيطة تجمع كل الثقافات والمجتمعات على أرضية لغوية واحدة ولا يغفل أن اللغة الإنجليزية هي اللغة العالمية التي تسيطر على البشرية في العصر الحديث هذا السيطرة اللغوية تؤثر بصورة غير مباشرة على الأجيال الجديدة وتذيب اللغة الأم للثقافة الإماراتية وهي اللغة العربية وينعكس ذلك بصورة أو بأخرى على الثقافة الوطنية.
إضعاف أثر هذه المهددات يعتمد على قوة اللغة الأم وتغلغلها في البنية المعرفية للفرد. حين ينمو الطفل على لغته المكونة لثقافة المجتمع مع غراس لمفردات وقواعد الثقافة مع التشديد على الاهتمام باللغة العربية والثقافة الوطنية في المدارس التي تعتمد المناهج الأجنبية، أما عن المربيات فأجد أنه من الضروري إجادة المربيات للغة العربية أو على الأقل التحاقهن بورش تعليمية للغة العربية وهذا لا يغني عن مسؤولية الآباء في إعطاء الأطفال مساحة أكبر وعدم الاعتماد المفرط على المربيات في الاهتمام بالأبناء.
ولكي ننجح في احتواء الآثار الجانبية لتلك المهددات لا بد من وجود تناغم بين ما تقدمه الدولة من جهد كبير في الحفاظ على الهوية الثقافية الإماراتية وبين السلوك المجتمعي والمفتاح المجتمعي هنا يكمن في دور الأسرة في تعزيز القدرات الاتصالية اللغوية عند الطفل باللغة العربية فدور الأسرة والمجتمع هنا هو الدور المؤسس الذي تتكئ عليه كل الجهود الأخرى من أجل الحفاظ على الثقافة الإماراتية قوية ومتماسكة وحية في وجدان الأجيال المتعاقبة.