الهوية بين الألم والشعر ، قراءة في ديوان فتافيت وجع للشاعر عاطف المنشاوي
بقلم
جابر الزهيري
رئيس نادي أدب أبو قرقاص
ما الشعر إلا ما تستشعره الذائقة الإبداعية في الشاعر ذاته أولا، فهو الناقد الأول لما يكتب، وكذلك هو أصدق معبر عن ما يعتمل في عقله من أفكار وفي قلبه من مشاعر، فيبدع بجميع حواسه عندما يتحدث عن ذاته، ويزيد إبداعه عندما يصدق فيما يكتبه من ترجمة تلك المشاعر لمفردات أدبية على سطور قصائده، وذلك الصدق في رصد ما تجيش به خلجات نفسه يجعل القصيدة تتدفق منسابة وكأنها تكتبه، خاصة وإن كان الشاعر ممتلكا لأدواته من فنيات كتابة النص الشعري، فيجد نفسه في معترك القصيدة في حالة من التوهج الأدبي وكأنه ذلك النشوان بين الوعي واللاوعي يبوح بكل ما لديه لينقل النص من ذاتية المبدع إلى عموم المتلقي.
وفي هذه المجموعة فتافيت وجع نجد أن العنوان الرئيس للمجموعة يشي بمكنون الحالة الشعورية للكاتب وهي الشجن، والألم الذي رغم تفتته إلا أنه ما يزال هو الخيط الرفيع الذي جمع حبات النصوص في كل المجموعة لتستقر في ذات الحالة الشجية، وفي كل نص وبين هذا الفتات من الأوجاع يبحث الشاعر عن ذاته التي يشعر يفقدها المعنوي، فيجمع هذا الفتات ليجد نفسه المفتتة مع وصوله نقطة النهاية في كل نص.
وليس العنوان فقط هو ما وضح صراحة ما أراده الكاتب في هذه المجموعة، فهو ما يزال مؤكدا على التوضيح الأكثر صراحة في الإهداء، فيقول:
إلى عمري اللي فات
وكل الحبايب اللي ساكنين في وادي السكات
والجدع اللي لسه بيعافر وقالوا عليه دا مات
هذا الإهداء لم يكن إلا نقطة البداية للمجموعة، وكأنه يقول أنه رغم حياته القاسية في مواجهة الألم الذي يتصور البعض أنه قد مات به، إلا أنه يعافر ويترحم عن من سبق من أحبابه، ومعهم أيامه الماضية، فهنا رغم الألم المسيطر على حالة الكاتب منذ بدايتها إلا أن روح التحدي والصمود واضحة بشكل كبير، ليصل إلى ذاته الحقيقية التي قد انكسرت بعض الشيء من فتات الألم لكنه ما زال (الجدع المعافر).
عاطف المنشاوي يتمثل في نصوص المجموعة دور الراوي الذي يحول النص الشعري إلى حكاية، ويحاور شخوصها، ويجعل لجماداتها صفات إنسانية تشاركه ذلك الحكي الشعري الرائع معتمدا على فواصل القافية القريبة، مما يجعل السجع الايقاعي متناعما مع حالة ذلك الراوي، فيقول في مقطع من قصيدة دفتر أحوال:
قوم.. قوم اشربلك كاس..
يمكن تفوقك الخمرة
وتثبت عينيك وسط راسك
وتشوف مين اللي داسك
أهلك وناسك..
الحوارية التي يعتمد عليها الشاعر في مجمل كتاباته، هي محور البحث عن نفسه داخل جميع الشخصيات والأشياء، فتكوينهم واحد، ومن جمع هذه الجزيئات تتكون لديه صورة الذات المفقودة داخله، سواء للنفس البشرية أو الذات الشخصية، أو الوطن، الأم التي يستجمع نفسه منها دوما.
ليصل في سرد ما يقوله الراوي إلى نهاية خيط الدخول في عالم الصمود في مواجهة التشظي فيقول في المقطع الأخير:
والسكة بانت وبوليده اتعدلت
والريق الناشف لان
وهيغسل بدني من الأحزان
ونتوضا من ميه زمزم
والنعش المحبوس في حجر المواجع
راح يفك لأمي ضفايرها
اللي مربوطة من زمن
اقلعي الطرحة
والقيها على جرحي
ولفينا بالعلم
وهاتي القلم
أكمل القصيدة
على نفس الوتيرة يسير عاطف المنشاوي في نصوص المجموعة التي نجح في اختيار عنوانها الرئيس وما يحمل من رمز، وكذلك العناوين الفرعية للنصوص، فنجد (حكاية عبيط) وحكاية جدع والحكاية التانية والحكاية التالتة، معتمدا على مفردات البيئة الشعبية المحيطة به، بل إنه في بعض الأحيان يجعل توضيح ما يشعر بصعوبة فهم مدلوله في هامش، ولكنه أيضا يضطر إلى كتابة بعض المفردات باللغة الفصيحة، رغم قدرته على إيجاد ما يؤدي نفس المدلول اللفظي من لهجته العامية دون أي خلل بالإيقاع، فمثلا لو قال
وارميها على جرحي، كانت أنسب من القيها، وهكذا، لكنني أجد أن مبرر الكاتب واضحا جدا وهو حالة تلبس النص له فيجعل الكلمات تتدفق دون نظر منه، وكأن هيستريا الألم تجعله فيما ذكرته من الغياب بين الوعي واللاوعي حال الكتابة.
تجربة قوية لشاعر يعبر بقلمه بصدق عن كل ما ببقايا ذاته الحقيقية التي يتلمس الأوجاع ليستكملها بداخله وبداخل المتلقي، بعد أن يزيل عنها كل فتات الألم ليعود ذلك الشاعر الإنسان المعافر الجدع لاستكمال قصيدة الوطن.
قد يهمك أيضا