نزلة الفلاحين.. قصة بقلم : محمد عبد الحكم حسن
ومرة أخرى يدفعني الحنين، أعوام كثيرة مرت وما زالت الطرقات تقطر حروفها جلية في صحاف الذاكرة، فضلت السير على قدميّ عبر طريق ترابي جديد أحاط بالقرية من الناحية الشرقية، أسير خلف عائلة جاءت من قرية مجاورة لزيارة موتاهم، يتقدمهم كبيرهم ينقل خطواته بصعوبة ، مدفوعًا مثلى بالحنين، يبدو انهم يحرصون على الزيارة كل جمعة ، لم يك ثمة حزن على وجوههم ، للسير على الطرق الترابية بين الزروع عبق خاص، حيث مواضع الأقدام مطبوعة يعدها الطفل الذي أمسك بطرف طرحة الأم ،
خطواتهم تتباطأ خلف قائدهم الشيخ، يشعرون بشيء من الحماية والاستقرار، ينقل الهواء إليّ كلماتهم التي تذوب عفوية، فألتقط منها بعض الجمل ، قالت إحداهن للأخرى: ( مسير الطريق يسفلكوه ) (نطقتها بالكاف)، فنطق القائد الشيخ ( للحي قريب )، لماذا لم أتجاوزهم ، ولماذا كنت أعد خطوات أقدامهم على التراب ، ولماذا تفجّر فى قلبي الحنين لأم وأب كنت أسير خلفهما على هذا النحو، متشبثًا بطرحة أمى ، أطأ قدميّ فى موضع قدميها ، فإذا ما تركتها التفت وهمست: ( إمش يا ضناى الليل دخل علينا )، كان بالفعل يقترب وقت الغروب .. ذلك الوقت الذي اختاره عصام السنوسى لافتتاح الصالون الثقافي في نزلة الفلاحين ..
مرة أخرى ..
نزلة الفلاحين ..
والفترة المسائية فى المدرسة الاعدادية ، والمسافة بينها وقريتي مهدية تزيد عن 7 كيلو ، وقد أنفقت القروش القليلة فى الطعام وأطباق المهلبية عند الأستاذ حمودة ، عليّ أن أعود قبل الليل وكلاب العرب ورعب الدفعة، العيال الذين لم يأكلوا مثلى ركبوا السيارات، فهالت العفار فى وجهى، وتركونى أبص صوب شمس تسقط فى رحم المغيب، فأمضى سائرا على قدميّ، طول المسافة أتأمل الزروع والناس وحجز المياه ونجع صالح، وألتقط نبقًا تناثر تحت الأشجار، مزيج من الخوف والدهشة والتأمل والتعب والشقاوة، ورفيقتي الشمس تدمع ألمًا لفراقى وتوشك أن تختفى: انتظرى يا أم ، لا تغيبي الآن حتى أدخل قريتى مهدية.
كان الشيخ قد دخل بعائلته إلى المقابر، فاتجهت يمينًا حيث مركز شباب نزلة الفلاحين.
نزلة الفلاحين مرة أخرى ..
من الأشياء التى لم تتغير ( المقابر) مقابر المسلمين ملاصقة لمقابر النصارى، وكأنهم اختارو الجوار أحياء وأمواتا.
“لم تشهد هذه القرية حالة تطرف دينى واحدة بين الأهالى”
قالها الأستاذ مكرم صادق .. الذى كان مفاجأة لى أن يحضر هذا اللقاء، جاء مستندًا إلى حفيده تسبقه ابتسامته وسماحة وجهه التي لم تغيرها السنين التى تجاوزت الثمانين، رائحة الزمن الجميل ودغدغة الذكريات، أجيال تخرجت من تحت يده، ما زالوا يذكرونه بكل خير ، منهم من خرج إلى المعاش ، أي صفاء يجعل هذا الرجل يعيش بروح طفل وإحساس شاعر ووجد صوفي وتواضع قديس، قال: خلال أربعين عامًا قضيتها في التدريس متنقلا بين مدرس وناظر ومدير، لم أشهد حالة تحرش واحدة بين البنات والأولاد رغم الاختلاط فى المدرسة، ولقد اجتمعنا مرة بعضو مجلس الشعب، وقد فاته وقت الصلاة فأراد مكانًا يصلى فيه، فقال له القس: أدخل صلى فى الكنيسة )، وبالفعل صلى العشاء فى الكنيسة، هنا لا يحتاج الكلام إلى ترتيب وتنميق وربطة عنق مُحكمة وجلسة مستقيمة أمام الكاميرا، إنه واقع معاش فى نزلة الفلاحين، التى تربينا فيها أجيالا لم نشعر أننا خارج قرانا، ولم يتعرض أحد من أبناء القرية لنا بسوء، ولم يجامل الأستاذ (مريد) أحدا منا حين ترتفع عصاه في طابور الصباح، فتشرئب الأعناق نحو العلم، ويعلو الهتاف: تحيا مصر .. وكان يحفزنى دائمًا على مواصلة حفظ القرآن الكريم ، فكنت أفوز بمسابقات حفظ القرآن، وكان يعطيني الجائزة فى الطابور.
عن تأثير الثقاقة على المجتمع كان موضوع اللقاء، سنين وأنا لم أستمع إلى الأستاذ مكرم الذي بدأ حديثه بالحمد لله، والصلاة على رسول الله، والدخول مباشرة إلى عمق الموضوع: بأننا ناس تحكمنا قواعد الدين بأخلاقه وآدابه فى التعامل .. مستشهدًا بأيات من القرآن الكريم، وبالأحاديث الصحيحة ، يقول الحديث بسنده، والتفسير من مرجعه، شيء مدهش ، هل رأيت شيئا كهذا ، الأستاذ مكرم صادق خليل مدرس الرياضيات يتحدث عن كيفية مواجهة المتغيرات التى طرأت على واقعنا بالرجوع إلى القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والتحلى بأخلاقه، ألم أقل أن أربطة العنق التى امتلأت بها قنواتنا وإعلامنا فى حاجة الى جذب طرفها المتحرك لتخنق هذه الأصوات المدعية التى تتحدث من برج عاجى وتخاطب الناس من عل .. فلا تتندهش حين يتجه الشباب إلى المسلسلات الهندية والتركية والرياضية ، يتفلتون من حصار الجمل المكرورة والمجاملة،لسان حالهم يقول: سئمنا من الخطاب الثقافي الموجه، والكلمات الجاهزة مثل.. / الآخر / النخبة/ أصحاب الرؤى والفكر .. إن الحوار الذي جاء به الأستاذ مكرم كان هو السائد حتى أوائل الثمانينيات ، قبل هجوم النفط والفكر البدوي وغزو الفكر الأوربى والأمريكي، وفتح المنافذ لتلك السموم حتى باتت تقضى على الأخضر واليابس، كان المجتمع سابقًا يتشرب من إناء حب ومودة وتواصل وحرص على وطن تربينا فيه ، كان الحوار هادئا والصوت المرتفع نشاز، الآن إن لم تلزم الصمت ستصاب بالأذى ، ما الذى أوصل المجتمع الى هذه الحالة التى يرى فيها ان التنوير والفكر والعلم رجز من عمل الشيطان ، لماذا لم يستطع الدور الثقافى رغم الآلة الجبارة من مؤسسات ثقافية، والميزانية الضخمة، وبوق الاعلام الذي لا يكل ولا يمل .. لماذ لا يصل إلى المجتمع ، أوليس بالأولى أن يغير المثقف من خطابه المتعالى ونظرته المتشائمة، وينطلق إلى رحاب أوسع من حيث الرؤية في الفن والتشكيل والإيقاع والحداثة المواكبة اجتماعيا وتربويا وبنائيا لحالة مجتمع وتغيرات للحركة والحياة والفكر والمعلوماتية وتطورات الصناعة والتكنولوجيا .. لقد باتت قصائدنا عدودة طويلة، وحالة من الندب المتواصل، حتى فى السرد فما زال الهوس الجنسي ملازم للكتابة في وقت تجاوز فيه العالم هذا النوع من الكتابة، وبتنا نرى كتابات غربية تحتاج إلى تأويل وقراءة مختلفة ، معظم الأعمال الموجودة على الساحة العربية غير قابلة للتأويل، وهى مسخ مشوه من كتابات الآخرين، أو تكرار بنوع مراوغ لنفس الكتابة للشخص نفسه، فلو تتبعنا أديبا أو شاعرًا لو جدناه يكرر نفسه ألف مرة، فى عالم متغير لديه كل المعلومات ، لديه ما ستقوله الآن وما سيقال بعد ألف عام ، إذًا كيف نقدم له الجديد، هذا ما ينبغى أن يتذكره من يضع نفسه على ساحة الإبداع ، الذي معناه التجديد ، معناه أن يكتب شيئًا بكرًا لم يطمسه إنس قبله ولا جان، لذلك كانت كلمة الأستاذ مكرم هي خيط معاويه ، ماذا يريد المجتمع ، وكيف تؤثر فيه الثقافة ليس ليتقدم فقط ولكن ليحتفظ بشيء من جمال الماضي ، الوثوب بروح الماضي وأصالته الى براح المستقبل ورحابته.
، كان كلام الأستاذ مكرم كافيا لأن يصل إلى عد كبير من الشباب الذين حرصوا على الحضور، كذلك الكبار على مستوى درجاتهم التعليمية والوظيفية ، مثل هذا الحوار يحرك الساكن ويجدد العهد مع الحب والوئام، لذلك كانت نزلة الفلاحين مرة أخرى ..
على حدود مركز المنيا من الجهة الشمالية ، تلتصق بقرية طحا العتيقة ، أنشئت فى فترة لم تتجاوز المأتى عام، في عهد محمد على، وفى سبب إنشاء تلك القرية قصة لا داعي لذكرها، هذه القرية على مستوى مصر التي أعلنت منذ سنين انها قرية خالية من الأمية، وإذا جاء الصباح ووجدت القرى من حولها يتجهون بمحاصليهم وتجارتهم ، وجدت أبناء هذه القرية يتجهون بعلمهم لينشروه فى شتى البلاد.
كان يجب أن أرى بنفسي وأسمع، حتى أعرف كيف أصبح لشطبي يوسف الروائي الجميل هذا الزخم من الإبداع العميق والمستنير والمتجدد والمكتشف لدروب خفية ينطلق فيها عصفور النار بين سفر الموت وسفر اليقظة ليكون متهيئا للصعود فى النهار ممزقًا كفن الثبات ليصبح حصانًا لا يموت، لماذا اختار شطبى يوسف البقاء في هذه القرية يعيش بروح راهب، رافضًا صخب العاصمة، تاركًا أنصاف الموهوبين يتهارشون كالديكة، ويهيمنون على منافذ الإعلام وجيف المؤسسات الثقافية، إنها روح المكان وعفويته ، محظوظ هذا المكان بوجود شطبي يوسف ، إذ ان الأديب ذاكرة المكان، يكشط عنه غبار النسيان، ويصد عنه عصا التجاهل ، فما تزال (الدَفْعة) بحيرة عامرة بالحياة، من خلال روايته ( عصفور النار ) رغم انساحاقها تحت جحيم المباني .. اللهم إلا من مزارع سمكية فى ذيلها إشارة إلى حياة كانت هنا،
جميل ان اكانت فكرة نادى أدب المنيا الذي لم يحضر منه سوى أحمد أبو بكر، وجاء الشاعر أسامة أبو النجا من مكان بعيد حريصًا على إثراء الفكرة، وكذلك الدكتورة أسماء عطا ، كنا نتمنى أن تروج الأقلام لتلك الفكرة وتنميها، بديلا عن المؤمرات الأدبية التى فيها ما فيها .. لترى رغبة أهالينا الحقيقية إلى مزيد من الفكر والتنوير، لقد التقى الماضي بالحاضر، وردد الدكتور ….. قصيدة نزار فى رثاء جمال ، كم جميل هذا الشعب حين يحتفظ بذاكرته الأدبية التى نظن انه قد محاها .. ولكن نحن الذين قد محينا من الذاكرة، لأننا لم نقدم تجربة إنسانية خالصة تحتفى بشعب يتدكدك تحت أقدام الهم والفيروسات والهجرة الجبرية وصراع الساسة وجشع التجار وجحيم الارهاب.
كان اللقاء ممتعًا حد الدهشة، والتقاء الأحضان حال الفراق يبث الدفء في الأجساد ، والشيخ قد خرج بعائلته من المقابر مدهونًا بعبق الوجد والذكريات والمدد والرضا ، والشمس تودعني بعينين دامعتين، فأعانق صديقىّ شطبى وعصام، وانطلق صوب قريتي مهدية، قبل أن تسقط الشمس فى رحم المغيب.
محمد عبد الحكم حسن
قد يهمك أيضا