الاغتراب بين جماليات اللغة وتداعيات التاريخ
قراءة في رواية لفائف كيسليف للأديب نصار الحسن
بقلم جابر الزهيري
عضو اتحاد كتاب مصر
السرد الروائي بما يحمل من جماليات تتيح للقارئ اقتحام عوالم مختلفة يصنعها خياله المتجاوب مع مضمون النص، من خلال معايشته لشخوص العمل فيتعاطف مع أحدهم، أو يصب جام غضبه على أحد آخر، أو يجد من ذاته جزءا من شخصية، بل ربما يجد من التشابه في تفاصيل العديد من الأحداث ما يجعله يرى شخصيته التي لا يعلمها غيره، جلية دون غموض بين سطور العمل الأدبي.
الأديب يستقي من ثقافاته ومما حوله من الشخصيات جزيئات أبطال عمله، ثم يضيف إلى كل منهم ما يراه متسقا مع ما يرسمه له في إطار الأحداث من ذاته، حيث يجعل نفسه في موقف الشخصية متقمصا ماذا ستفعل بما منحها من سمات وعيوب لمواجهة الحدث، ولكن تتجلى براعة الكاتب وحرفيته في عدم جور شخصية على أخرى، رغم خروج الجميع من بوتقة واحدة وهي ذاته المبدعة.
وغالبا ما تتجلى براعة الكاتب عندما يتلاحم زمن العمل بتاريخ، أو أحداث لها أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية تركت رواسبها داخل عقل المتلقي مسبقا، فيصبح وقتها الأديب حذرا كل الحذر من الانجراف خارج إطار ما دونه التاريخ، أو رصده كما كان، فيصبح مؤرخا لا روائيا، فالزمان والمكان بما يحملان من ثوابت راسخة لا يمكن إغفالها في صناعة العمل الأدبي مما يستلزم الوقوف على كل كبيرة وصغيرة في الأحداث، وكذلك أثناء الوصف السردي الحياة الاجتماعية والاقتصادية بما بهما من مأكل وملبس، وتعاملات بين الشخصيات، بل والتعمق بالغوص في الطبائع النفسية لكل منهم.
خلال قراءتي لرواية لفائف كيسليف للأديب نصار الحسن، وجدت أنه أجاد في عمل مقارنة بين شريحتين مختلفين من شرائح البشر، مع اختلاف ظروف كل منهما سواء تاريخيا أو قوميا أو عقائديا أو جنسيا أيضا، لكنه جعل الخيط الرابط بينهما هو ظاهرة الاغتراب، سواء كان اغترابا نفسيا بعدم تكيفه مع ما يلاحقه من أحداث يحاول التكيف معها رغم قسوتها، أو اغترابا جسديا بتهجير قسري نتيجة ظروف سياسية، فجعل المعاناة هي محور الاتفاق بين كيسليف شخصية الولد اليهودي الذي عانى من الفقد مبكرا سواء باليتم من الأم وموت صديق الطفولة ثم موت الأب الذي كان بمثابة نصف الحياة، والتفريق بينه وبين سارة محبوبة الصبا وحلم النصف الآخر، قبل الدخول في رحلة تهجير قسري بسبب معتقده، وبين مريم الفتاة المسلمة التى تعاني فقد حرية الاستمتاع بأبسط حقوقها الطبيعية نتيجة اقتحام أسرة زوجها لحياتها نتيجة تهجيرهم عن أرضهم ومنازلهم بفلسطين.
جعل الكاتب روايته بكل ما بها من زخم في الأحداث منصبا على تلك المقارنة بين مريم وما وقع بيديها مصادفة من تلك الأوراق التي دونها كيسليف عن حياته، وبين هذه الشخصية التى هي عماد الرواية، لتتضح رسالته الإبداعية التي تجعل القارئ يتعاطف مع كليهما بنفس القدر، فالمعاناة واحدة، وإن اختلفت صورها، فكانت المشاهد بين ما تقرأ مريم من تلك الأوراق المستخرجة من السرداب وكشفت هوية صاحب البيت الذي يقطنونه، وتعرفها على حياته كاملة من سيرتة الذاتية التي دونها حتى أخر دقائقه في الحياة، وبين حياتها مع زوجها ووالديه وأطفالها، وما يتشابه من ضيق ورغد، من أمن وخوف، من مرض وعافية، حتى أوقات العلاقات الحميمة، كانت تحمل ذلك التشابه رغم تعدده مع سيدات من ناحية كيسليف واختلاف حالاتها المزاجية مع زوجها فهد، بل جعل الكاتب تشابها بين الشخصيات المحيطة بكل من مريم وكيسليف العديد من الأوجه، رغم تعددها مع الفتى اليهودي وندرتها مع مريم، فكان يمنح لكل موقف لشخصية من الشخصيات الثانوية لدى كيسليف نقطة اتفاق في موقف مع الشخوص القليلة حول مريم، فوالد فهد يحمل العديد من أوجه التشابه بين عزرا، والشيخ إبراهيم، وحزقيل أيضا، وكذلك فهد يحمل أيضا من معظم الشخوص سواء الذكور أو الإناث فهو من جعلها تعشق القراءة، وكم جلب لها من الكتب كما فعل حزقيل مع صديقه، وكذلك كم شعرت بتجاوبها له لإرضاءه دون رغبة حقيقية، كما كان يتجاوب كيسليف مع حنة، وكم تعاملت معه كماريا، وكم عشقت ذلك التلاحم وكأنها سارة، بل أجاد في عقد مقارنة عقلية بين ما أراد أن يصنعه كيسليف من مراقبة للحظات المتعة الجنسية بين حزقيل وماريا ذات مرة، ما حاولت مريم أن تفعله حينما سمعت ما دل على علاقة حميمة بين والدي زوجها، حيث ظهرت تلك المفارقات بقفزات محكمة من الكاتب لتحويل المشهد من النص الأساسي وهو قصة ذلك الولد اليهودي المحطم نفسيا بما تعرض له خلال رحلة حياته، إلى العودة للنص الفرعي وهو قصة مريم وأسرتها بما تعانيه من اغتراب مادي ومعنوي رغم محاولات إبداء الرضا والتعايش مع ذلك الواقع.
اللغة التي استخدمها الكاتب بما تحمل من صفات السهل الممتنع تجعل القارئ يغوص في الأحداث دون ما يستثيره من كلمات تستوقفه عن المسير في متابعة القراءة، بل ما جاء باللهجة خلال الحوار كان موظفا بشكل جيد، وأجمل ما به مناسبته للشخوص، وخاصة ما دار بين والدي فهد، بما يحمل من عفوية التشاجر الفكاهي بين حبيبن لم يمنعهما ما يمران به من صعوبات من الدخول إلى عوالم الاحتواء.
وأيضا تلك المقارنة بين رجال الضبطية سواء هنا أو هناك، فالتعامل بحذر اتقاء ما سيحدث حال الاعتراض، وما يعتمل بالنفس من كبت واستبداله بابتسامة مصطنعة وإظهار رضا مزيف، هو العامل المشترك لدى الجميع، وكأن الكاتب قد أراد أن يثبت أن القهر والتعبير عن تجنب تبعاته له سبيل واحد لا يتغير بتغير الزمان أو المكان أو الشخوص.. فالإنسان هو الإنسان في كل حالاته.
رصد الكاتب رحلة بطل العمل من دمشق إلى دير الزور، وما بها من سقوط على شفا الموت، ثم الاستقرار الغير آمن، والانتقال إلى حلب، ثم العودة إلى دمشق، وكأنه يقرر أن حلم الرجوع للوطن، المحبوبة، ذكريات الصبا، لابد من حدوثه قبل النهاية مهما تعددت المعوقات، فجعل البطل يعود إلى منزله، بل وجعل محبوبته التى فقدها تعود إليه، وإن كان نالها غيره لكنها عادت، بل جعله مقتنعا أنها لا علاقة لها بذلك المقتحم لحياتهما، وجعله يمتلك المنزل الذي طالما طرد منه، ليستقر في النهاية بعد أن دون كل مراحل عمره في أوراق ستظل شاهدة كتاريخ يتناقله الأجيال القادمة كما صرحت مريم أنه لابد وأنه سيأتي اليوم الذي تقص فيه قصة كيسليف لأبنائها أو أحفادها، جعل الكاتب بطل روايته يستقر في مكانه المفضل الآمن في منزله، في وطنه، جاعلا آخر كلماته اسم محبوبته، مما ربط الرمز الدلالي المحبوبة بالأرض، وكأنها بشارة واستقراء للمستقبل بعودة للمهجرين لتكون كلماتهم الأخيرة هي الوطن في جوف أرضه.
تحية لكاتب يعي جيدا ما يخط قلمه من إبداع يحمل الإمتاع والتشويق، كما يحمل الفكرة والرسالة، جعل من حروف روايته صرخة إنسان ينادي بالحب بين كل صنوف البشر دون تمييز لعرق أو دين.