شعر العامية فى المنصورة ” فصاحة التمرد”
بقلم\ سمير الأمير
يتساءل البعض عن السبب وراء الجماهيرية النسبية لشعر العامية وللشعر البدوى فى مصر والشعر النبطى فى الجزيرة العربية ويتحسر البعض من قصيرى النظر على ما يدعونه من مساهمة شعر العامية فى ضياع لغة الضاد- ” بالمناسبة لا ينطق أهل الجزيرة العربية حرف ” الضاد” كما ينبغى – هم يفتعلون تلك الإشكالية وكأن اللهجات المختلفة ستقضى على اللهجة المعيارية التى يطلقون عليها زورا وبهتانا ” اللغة الفصحى” كونهم يخصونها دون غيرها من اللهجات بالفصاحة وطبقا لهذا المنطق المغلوط فإن ما كتبه صلاح عبد الصبور يعد فصيحا بينما يعد ما كتبه صلاح جاهين غير فصيح وهو أمر لا يمكن للعقل القبول به، إذ الفصاحة هى وصف للغة قد يصدق مع اللغة الرسمية ومع اللهجة العامية على حد سواء ومن من شعراء جيل فؤاد حداد يستطيع أن يدانيه فى فصاحة لسانه وقوة بيانه؟ فليرنا هؤلاء الذين يستريبون بشعر العامية كيف يكون محمد التهامى أو أحمد سويلم مثلا أفصح من فؤاد حداد؟ أو عبد الرحمن الأبنودى ربما يكونان أفصح من ” سلامة العباسى” أو ” أمين الديب” وربما يكون لهما قصائد بالغة الفصاحة ليس لكونها مكتوبة باللغة الرسمية ولكن لكونها تستخدم ألفاظا قوية ذات دلالات متعددة وهو أمر ليس مقصورا على اللغة الرسمية قطعا.
علينا إذن أن نتفق حول معنى للفصاحة وعلينا قبل ذلك أن نقر بأنها مستقلة عن نوع اللهجة التى استخدمها صلاح عبد الصبور أو تلك التى استخدمها فؤاد حداد والتى أصبحت معروفة باسم ” العامية المصرية” ومن ثم يصبح الشاعر الفصيح هو ذلك القادر على التعبير بقوة عن المعانى باستخدام أقل عدد من الكلمات وليس مهما هنا إن كان هذا الشاعر يستخدم وسيطا لغويا رسميا أو شعبيا!!
الشاعران على عبد العزيز ومصباح المهدى
لما كان موضوعنا هو ” ملامح الثورة والتمرد” عند شعراء المنصورة ولما كان المجال هنا لا يتسع لتناول ديوان لكل شاعر فسأكتفى باختيار قصيدة من ديوان كل شاعر مراعاة للاهتمام وللدقة، والحقيقة أننا هنا لا يمكن أن نغفل الإسهام البارز لشاعرين كبيرين هما مصباح المهدى وعلى عبد العزيز، الأول تعلم الحياة فعلمته الشعر والثانى بدأ محبا لحداد وجاهين ونجم وحجاب وعبد الباقى والأبنودى فسار على دربهم حتى اكتشف صوته الخاص، فى قصيدة “على عبد العزيز ” طلعت أخاف” وهى القصيدة الثالثة فى ديوانه ” قبل النهاية بمشهدين” الصادر فى سنة 2010 عن الشركة العالمية للنشر والتوزيع، فى هذه القصيدة التى مطلعها \طول عمرى شاطر ف النشيد\ لكنى فى قواعد اللغة عيل بليد\ نستطيع أن نتعرف هنا على الطفل الذى أصبح الشاعر وعلى الشاعر الذى مازال طفلا متفوقا فى ” النشيد \ أى فى الشعر، لكنه “بليد” فى قواعد اللغة، إن حرية الغناء والإنشاد هنا مرهونة بالتمرد على قواعد اللغة التى يصبح الفشل في قواعدها اختيار اللاوعى فالشاعر يصف نفسه ” بالبلادة” لكننا نفهم العكس تماما، إذ البلادة هى الحكم الخارجى للقهر ولهؤلاء الذين يضعون لنا القواعد، وعبقرية تلك البداية أنها لا تعنى مطلقا أن الشاعر يتخلى عن اللغة أو يعجز عن نطقها ولكنه بالأحرى يتمرد على إصرار العالم الخارجى\ أى “القهر” على فرض قواعده، يقول عبد العزيز:- \ ف الإنشا أفرح وانتشى فى الإملا صفر\ و هنا نتأكد أن الشاعر\ أى “الطفل “قادر على ممارسة الحياة \ أى الغناء\ أو البناء، لكنه يرفض أن يصبح مطالبا بترديد القواعد التى يفرضها ” المدرس” الذى يستخدم العقاب\ أى القهر رغم معرفتنا أن الطفل ينشد النشيد ويبنى جمل الإنشاء بشكل تلقائى دون أن يقترن ذلك بوعيه بالقواعد لأن الوعى بالقواعد من المؤكد سوف يسبب له الإحباط والعجز، أما القاهرون فهم مشغولون بالنظم والقواعد التى تبرر سطوتهم والنتيجة طبعا كراهية الطفل للمدرسة والنظام والمدرسين إلا ” السيد المر” لماذا ؟ يقول الشاعر \ كان التاريخ وباك ألذ من العسل| ولا داعى هنا لتبيان تلك الروعة فى مقابلة المر بالعسل لأننا هنا إزاء بداية تشكل الوعى المبنى على إعادة تفسير ما ترسله الحواس وليس التسليم به أو الخضوع له بلا تمحيص، لأن السيد المر ليس مرا على الإطلاق كما يبدو فى الظاهر، \ كان فيه عيال ويا الفطار شاربين حليب\ وأنا شايى مغلى سكره دايما خفيف\ ضعيف نحيف وبتكسف م الشورت فى حصص الرياضة\ هنا سنلحظ كيف يتناول على عبد العزيز وعى الطفل بموقعه الطبقى دون استخدام مصطلحات فوق وعى الطفل أو دون التدخل الفج لعلى عبد العزيز القومى الناصرى وهذا ما جعلنى كقارىء استمتع بقصيدته التى تلمح ولا تصرح والتى التزمت بالموقف الذى طرحته منذ البداية وهو موقف الطفل على عبد العزيز وليس موقف الشاعر على عبد العزيز. يقول الشاعر:\ ضرب الجرس والحوض كأنه ميدان قتال\ بين التتر وأى حد\ قلت انزوى جوه الجنينه شدنى عيل تخين\ عرفت إن الورد حاجزينه الحرس\ فطلعت أخاف من كل يافطة\ مكتوب عليها ممنوع وحاذر واحترس\، أظن أننا هنا مقتنعون بقدرة الشاعر على عبد العزيز على تشكيل نص يتجاوز الصخب الإيقاعى الذى أوقعه قبل ذلك فى كتابة قصائد ليست قطعا بعمق قصيدة ” طلعت آخاف”
الشاعر مصباح المهدى هو واحد من أهم شعراء العامية المعاصرين فى مصر المحروسة، صدرت له دواوين ” على يد محضر ” ” وشجر للعياط” و “وإيه تانى “ و “تخاريف حمى ” و ” وطن راجع من التحرير” و أخيرا ” كلها ساعتين ويدن” وهو شاعر تكتبه القصائد، أقصد هنا أن مصباح قد تخلص من معرفته بكيمياء الكتابة التى تنتج شعرا يشبه الشعر الحقيقى من الناحية الشكلية فقط كلما وضعنا الكلمات والصور فى الأنساق المألوفة والتى أصبحت مجانية ومتاحة أمام العامل والخامل، تلك الكيمياء المجرمة التى ألبست القصائد موسيقاها الصاخبة التى تصدع رؤوسنا وتمنعنا من أن نتمثل ما يقوله بعض هؤلاء المتشاعرين من ثغاء يشبه بعضه بعضا حتى استحقوا تلك المشاهد التى يسخر منهم فيها الممثلان عادل إمام ومحمد هنيدى، لقد تجاوز مصباح المهدى التناول الزجلى الذى سيطر على ديوانه الأول “ على يد محضر” وديوانه قبل الأخير ” وطن راجع من التحرير ” ليحتل مكانته المرموقة على خارطة الشعر المصرى بديوانه الأخير ” كلها ساعتين ويدن” يقول مصباح\كلها ساعتين ويدَّنْ\والا أقولك قوم وصلِّي\اللي راح يحصل حصل لي\واللي راح يدن إقامة\واللي مُوكَل بالإمامة\واللي راح يرفع جنابة \زاد على المُحْدِث جنابة\قلبي يا مرمى نيران المدفعيه\ بعترت فيّا الديابه\أهدروا دمي الجُناه\مش غريبه الحق تاه
لعلنا نلحظ هنا تلك الحالة من عدم اليقين رغم التصريح فى البداية بالجملة الخبرية ” كلها ساعتين ويدن” إذ يبدو أن المقصود هنا هو إشاعة حالة من الطمأنينة الزائفة لكى تستمر حالة الارتباك غير المنطقى ومن ثم يطمئن هؤلاء الذين يشيعون تلك الحالة من أن درجة الوعى بها ستبقى فى حدها الأدنى لكى يظل قلب الشاعر هدفا لنيران المدفعية أو يظل هو نهبا للذئاب التى هى بالتأكيد ليست سوى قوى الاستغلال والاستبداد، لكن القصيدة تأبى أن تخضع لتلك الحالة وتقاومها بضراوة ليس برفع الشعارات وعلو النبرة ولكن بمنتهى البساطة بوضع مفردات هذا الزيف فى مقابل بعضها البعض ليحدث هذا التقابل وعيا يتجاوز ذهنية التناول السطحى إلى مستويات أعمق وذلك بإثارة قدر كبير من الدهشة والانفعال على مستوى الحس والوجدان وعليك أنت وحدك أيها القارىء أن تجيب على تلك الأسئلة الصادمة ولتتأمل معى بعضها:-( مش غريبه إن المشقة تلقى دَقّه وصحن فول؟ \تلقى عود جرجير في شقّة عيش حكاية؟مش غريبة إن الخرابه اللي نازل فيها قبر؟\مش غريبة القبر أحضان الحبايب؟
ويستمر مصباح المهدى فى صدمنا بصور ترينا إى مدى تم السيطرة علينا بوقاحة الاستغلال وبسلطان القهر الفج المبتذل الذى جعل “شُبرا” وهى الحى الفقير ترسل كسوة لأغنياء المعادى وجعل الزكاة فرضا على الفقراء لصالح الأغنياء مخالفة بذلك شرع الله وشرع الإنسانية وتصل ذروة استلابنا إلى الدرجة التى تشعرنا بأننا آمنين حتى ونحن ندخل إلى النار التى ليست سوى نمط الحياة المقهورة التى اجبرنا أن نحياها| ادخلوبنا آمنين ف الحريقه\، لم يطلب مصباح منا صراحة أن نتمرد لكنه حرضنا بشكل غير مباشر دون أن يرفع صوته بكلمات الجعجعة التى لا يفهمها إلا قائلوها، لكن القصيدة تدعونا بعنف أن نتخلص من كل تلك المشاهد المتناقضة لأن……؟ | الحياة دي الوقت آخذه في التعرِّىمش ها قول: قال المعري \مش ها قول: قال ابن إيه..\الكلام وقف لجناب المخبر الفلتة السفيه\
فى تقديرى أن تلك القصيدة هى من أروع ما كتب الشاعر مصباح المهدى وهى تمثل تحولا واضحا فى مسيرته الشعرية ويمكننا القول أن مصباح قد وجد راحلته وعليه أن يعتليها دون النظر إلى الوراء ودون استمراء تلك اللذة التى قد يغرى بها التناول الزجلى للقضايا السياسية بطريقة مباشرة وهو الملمح الذى ساد الديوان الأول لمصباح والذى امتدت خطورته إلى الديوان قبل الأخير ولكنه يظل مجرد هامش ثانوى على متن جوهرى عام يتكون من قصائد بالغة الجمال مثل ” نهد الدور” و ” ملحة” و”تسابيح جريح” وروائع أخرى لا يتسع المجال لتناولها بالتفصيل.
الشاعر فتحى البريشى
أما الشاعر فتحى البريشى ابن ” كفر الأعجر” حيث ولد الشاعر الكبير ” زكى عمر” شاعر الثورة والتمرد الذى مات غريبا وغريقا فى اليمن بعد رحيله عن مصر فى عهد الرئيس” المؤمن” الذى لم يكن يؤمن سوى بالتضييق على المثقفين لدرجة أنه عزل الكاتب الكبير يوسف إدريس من الأهرام ونقل ملفه ” لشركة بيع المصنوعات”، فى تلك الأيام الصعبة رحل زكى عمر بعائلته إلى اليمن الجنوبى ولابد أن ” البريشى” كان فى مقتبل الشباب ولابد أنه تأثر برحلة زكى عمر على الأقل كشاعر وهذا يمكن ملاحظته وإن لم يتأثر به كمناضل اشتراكى وهذا لا ينتقص من ” البريشى ” على الإطلاق كشخص مستقل ولكنه ربما أفقده بوصلة التوجيه باعتبار أنه – أى البريشى- ينتمى إلى فقراء الريف ويتناولهم فى قصائده فضلا عن تناوله للقضية الفلسطينية وتمجيده للشهداء فى الكثير من قصائده، فهو من الشعراء الذين يسيرون بخطى واثقة فى كتابة العامية منذ ديوانه الأول ” حروف ونقط دم ” وحتى ديوانه الأخير” غُنا الشوارع” الصادر عن ” أدب الجماهير فى عام 2008 أى بعد الانتخابات الرئاسية سنة 2005 وما تلاها من أحداث وكوارث تركت أثرا بالغا على الشعب المصرى ومن ثم لا نستغرب تناول قصائد “غنا الشوارع” لتلك الأحداث ووصفها والتعليق عليها لكننا بالقطع لا نلمح تمردا عليها أو تحريضا ضدها، إذ تظل القصائد فى إطار الشكوى والوصف وربما اللعن المرتبط بالغضب ولكن الديوان فى مجمله يحمل قيمة التأريخ لزمن الغرق والحريق والهجرة غير الشرعية حيث يمتص عطش البحر أبناء الشطوط الهاربين من الفقر وضيق الحال ويحمل الديوان أيضا ما يمكن أن يطلق عليه ” فصاحة الألم” وإن كان يبتعد ” عن فصاحة التمرد” وتبقى قيمة ديوان” غنا الشوارع” قيمة هامة فى الدراسات الأنثروبولوجية التى ستحاول فيما بعد الوصول لجوهر مأساة المصريين فى عهد الرئيس حسنى مبارك، والحقيقة أنه يصعب فصل قصيدة واحدة عن الديوان باعتباره يمثل حالة واحدة تقريبا مفرداتها ” البحر- والشطوط – والغرق- والسفينة – والغربة” ولعل من المهم هنا التأكيد على قدرة “البريشى” على توليد صور مبتكرة، لكننا لا نستطيع أن نغفل أن كثيرا من الأهداف تضيع رغم براعة اللاعب فقط لأن طاقة الغضب لا تشير إلى عدو محدد
الشاعرة ” رشا الفوال”
ديوان الشاعرة ” رشا الفوال”حبنا قامت صلاته” صادر عن سلسلة “أدب الجماهير فى سنة 2011 وهو العام الذى شهد بداية الثورة المصرية ورغم أن الموضوع هو “تعقب سمات الثورة والتمرد ” فى القصائد العامية التى سبقت أو واكبت ثورة يناير فى إقليم الدقهلية، رغم ذلك فإننا نجد أن نصوص الديوان تجاهلت تلك الأحداث لصالح التركيز على جانب واحد فى العلاقة بين الرجل و المرأة وهذا يذكرنى بالنقد الذى تعرضت له الكاتبة الإنجليزية ” جين أوستن” إذ كانت تركز فى رواياتها على الجوانب العاطفية والاجتماعية وتتجنب الإشارة للأحداث السياسية أو الحروب التى عاصرتها ومع اعترافى ببراعة الشاعرة وتسليمى بأنه ليس من حقى أن أُملى عليها موضوعات نصوصها إلا إننى آخذ عليها تقليدية طريقة التناول فى موضوع العلاقة بين المرأة والرجل ولو أنها وضعت تلك العلاقة فى إطارها الاجتماعى لكانت تلك النصوص تماست مع الواقع المحيط بالإنسان سواء كان رجلا أو امرأة وكان ذلك كفيلا بجعلها تلتقط وعيا جديدا يتيح لها إدراك أن سياقات الشك والغيرة والخيانة والهجر لا توجد مستقلة عن السياق الاجتماعى والاقتصادى العام ومن المؤكد أن ” رشا الفوال” سيكون عليها أن تتلمس ماهو أعمق وهذا ما تدل عليه قصيدتها الخيرة فى الديوان وعنوانها “مش نهاية” تقول ” رشا” \ لجل تبقى الروح عفية\ دارى خوفك من عيوبك\ فى النهاية تبقى ليه\ ع الفلاح ألف حيه\ ألف حيه على الفلاح،
تحية لروح الشاعر الكبير أحمد عقل
هل يمكن الحديث عن شعر العامية فى الدقهلية \ بل فى مصر دون الوقوف بساحة شعر أحمد عقل الذى وافته المنية فى عام 2011؟ وهل يمكن الحديث عن شعر الثورة والتمرد دون التوقف عند تجربة أحمد عقل الفنية والإنسانية ؟ الحقيقة المؤكدة أن أحمد عقل لم يكتب إلا قصائد متمردة وثورية ولم يكتب فى أى غرض آخر على الإطلاق، لم يصدر لعقل سوى ديوانان واحد قبل وفاته من دار النديم بعنوان ” انتماء” والثانى بعد وفاته بعنوان ” بديهيات” وهو صادر عام 2011 عن دار الكتاب للنشر والتوزيع، وأختم هذا المقال بقصيدة للشاعر العظيم أحمد عقل دون تعليق منى ليتعرفه من لا يعرفونه.
ولا عمره الخصيب يبور\ولا ليل شديد السواد\ يحجب شعاع م النور\ولا سر يفضل فى بير
ولا بومه تحيا ف عمار\ والبذرة رغم السبات\ بتشق صدر الصخور\ ويشب منها النبات يطلع شجر بجدور\ ولا سجن بألف سور|يمنع توالد غناوى\ تبشر بساعة نشور\ ولا كل حراس القصور\ على مر كل العصور\ قدرت تحاصر غنانا\ ولا تكتم ف صوتنا الجسور\