قصة قصيرة
شوارع الحزن
فوق رصيف محطة القطار ، المدى يفترش الطريق وعينان تومئان بالنهار ، انفرطت عقود الكلام فوق طاولة كافتريا المحطة ، واطل الترقب ناحية الجميلة ، ووردت الشمس خدود الحسن ، وانتابتني نشوة الصباح ، رحت أغازل تلك العيون التي ترقبني بابتسامة خفية ، مؤكد أنها تعرفني ، وعندما قررت أن أكون سعيدا التفت إليّ الحزن ووبخني ،
كيف أخون عمراً عشناه معاً ..! ضمني إليه ، انكمشت داخلي ، وانتابتني الحيرة ، و(ناجي) يحدثني .. :
– جدد صباحك وتوضأ بالنور ، وصلي ركعتين في محراب عشقك .
احتسي قهوته مبتسما وفتش في الزحام عن طيفه الهارب منه منذ سنين ، وانتابت (محمود) كحة من دخان سجائره الذي انتشل رائحة العطر من فوق ملابسي ، وكوب الشاي لم يبق في قاعه سوي تفل الحكايات الباردة وأمسك فرشاة وراح يلون الرصيف بالانتظار وهمس ..:
– ما أجمل أن تهوي امرأة ليس لها عنوان .
قلت متنهدا ..:
– بَعضُ العطُور تَخفي داخلها حِكَايَة لآ تُنسَى ، فَلا تَستَغربْ مِنْ تنهُد أحدُهُمْ بِمُجرَد رَشة عَطر .. !
نظرت في عينيها وهي ترقبني ، سيدتي لستُ أدرى أيُّ الحديثِ أجمل ؛ حديث النفس ، حَديثي عَنكِ ، أم حديثِ معكِ ..!! ابتسمت في دلال وقالت محدثة الصمت ..:
– رجل شّرقي ؛ يملُك عينانّ فارغتانّ وقلبا مثقوبّا .. ! لا تكفيه أنثى واحدة؛ كلما حصل علي أنثي سيظل يبحثّ عن مزيد ..! ”
اجتر رؤيتها حين التفتت وخطفت قلبي مني بكل سهولة ، كأني كنت مستعدا لخوض التجربة ، وتهيأت لتلك النظرة الخاطفة ، برقت ، فسرقت مشاعري ، إلا أن مجئ القطار قطع حبل الوصال وانتفضوا من مقاعدهم ، عاودني الحزن ، افترقنا ومشاعرَ الآناثَ ، تزيد من لوعة التجَربة..!
حملت حقيبتي ، أجرجر الخطي في تثاقل ناظرا للوراء وتساءلت ..:
– تري أين أنت يا مؤججة مهجتي .
دلفا إلي داخل عربة القطار القادم من القاهرة متجها إلي بورسعيد يحملان معهما قائمة الحزن الذي تمدد فوق القضبان ، أطلق القطار صفارته منبها المسافرون استعداده للحركة ، لم يمكث في محطة الزقازيق سوي دقائق قليلة ، وأنطلق يتهادي فوق القضبان وانفلتت أغنيه من الذاكرة ..
أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد
أمانه عليك أمانه لتبوس لي كل أيد
حاربت في بور سعيد
إلا أن القطار القادم من هناك أتي حاملا معه ريح الفراق ، تدافع الركاب ما بين الدخول والنزول وغابت في الزحام الذي ابتلعها داخل العربة ، فتشت عنها ولم يبق سوي ريحها الذي ملئ صدري بالنشوة ، وأصر محرم فؤاد أن يغازلها من الراديو ..
يا غزال إسكندرانى
يا غزال الشوق رمانى
ع الحليوه الأسمرانى يا اسمراني
يا غزال الأسمرانى يا غزال
أخذت نفسي من نفسي التي دخلت إلي العربة الفاخرة ، خطفت قلبي معها تلك الصبية ، وأججت جوارحي الباردة منذ تملكني الوجع ، وبعثرتني عواصف الوحدة في المدينة التي أضافتني إلي قوائم الحزن مع الأطفال المشردين في الشوارع ، يتسولون العطف فوق الأرصفة ، فانطلقت تاركا الرصيف الموحش وعيناي تلاحقان قطار الإسكندرية الذي تلاشي في الفراغ ..