سيرة حياة الموج الأبي، مشوار الأديبة القديرة وفاء المنصوري
بقلم: أ.د أحمد يوسف عزت
أستاذ النقد والأدب العربي الحديث المساعد
بكلية الآداب، جامعة بورسعيد
إنها السيدةُ الفُضلَى: (وَفَاء السَّيِّد إبراهِيم المَنصُورِي)، ربيبةُ أزقةِ بورسعيدَ وحوارِيهَا الطيبةِ والرؤومِ، والتي تقطنُ بشارعِ الصَّبَّاحِ، بأبراجِ الهيئةِ.
إنها الاسمُ الذي اقترنَ دومًا بالنضالِ، وكأنها اختزالٌ شريفٌ لعبقريةِ مدينةٍ، قَدَرُهَا أن تناضلَ من يحاولُ السطوَ على سحرِهَا وما أَكثَرَهُم! وتذُودَ عن حِيَاضِ الوطنِ، بما أوتيتْ من شرفٍ جغرافيٍّ؛ جعلَ منها بوابةَ العبورِ إلى شمالِ شرقيِّ الوطنِ.
هُجِّرَت أديبَتُنَا (باديءَ ذِي بَدءٍ) عامَ ثمانية وستين وتسعمائةٍ وألف للميلادِ إلى محافظةِ دِميَاطْ، في ظروفٍ شديدةِ الوعورةِ، وبِصُحبَتِهَا أُختِهَا وابنةُ أختِهَا، وألمُ ضياعِ الأبوينِ، اللذينِ رَكِبَا في حافلةٍ من حَافِلاَتِ المُهَجَّرِينَ. ناضلت وفاءُ مع أخُتِهَا؛ حتى عَثُرَا عَلِيهِمَا؛ واستقرَ بِهِمُ المُقَامُ في مدينةِ (التِّبِّين)، من أعمالِ محافظةِ حُلوَان، وهي أكبرُ مدينةٍ صناعيةٍ في حُلوَانَ، مشهورةٍ بصناعةِ الحديدِ والصلبِ، وأُطلِقَ عليها قلعةُ الصناعاتِ الثقيلةِ في بَرِّ مِصرَ.
وكأنَّ الجغرافيا قد أهدت أَدِيبَتَنَا بعضًا من خَوَاصِهَا المُلهِمَةِ؛ صارت وفاءُ المَنصُورِيِّ رمزًا للصلابةِ والجَلَدِ والقوةِ بأشكالِهَا كافَّةْ. لكنها، دائمًا، كانت تضعُ بورسعيدَ في سويداءِ رُوحِهَا؛ عشقًا لا تنقضي عَجَائِبُهُ. عاونَت أُختَهَا في حياكةِ الملابسِ العسكريةِ، للفدائيينَ وجنودِ العسكريةِ المِصرِيَّةِ البَرَرَةِ، وكذا؛ كانت تجمعُ التبرعاتِ من أجلِ المجهودِ الحربيِّ؛ عقبَ النكسةِ، وأثناءَ حربِ الاستزافِ. كانت وفاءُ المنصوريِّ جنديًّا في المعركةِ، كَتِفًا بِكَتِفٍ مع الجنودِ أو آسادِ الشَّرَى، وَلَكِن بِطَرِيقَتِهَا الفَذَّةِ والمُخلِصَةِ.
التحقت أَدِيبَتُنَا بمدرسةِ الحديدِ والصلبِ الابتدائيةِ بِحُلوَانْ، وأكملت مسيرةَ تعلِيمِهَا بعزيمةٍ ورَبَاطَةِ جَأشِ المناضلِ الفَتِيِّ. ثُمَّ تَزَوَّجَت وَهِيَ ابنةُ الحاديةِ والعشرينَ عُمرًا، برجُلٍ راقٍ وكريمٍ، من رجالاتِ القواتِ المسلحةِ المصريةِ، ربما رأت فيهِ انعكاسًا لحبِّ النضالِ، الذي يَسكُنُهَا منذُ نعومةِ أظفَارِهَا. تزوجت بسيادةِ العميدِ: (أحمد جَوهَر)، الذي أَنسَلَهَا ثلاثةَ أبناءٍ رائعينَ ومتميزينَ، نعلمُ منهُم في مضمارِ الثقافةِ والفنونِ، الممثلَ والمخرجَ المسرحيَّ، الفنانَ المتألقَ:
(إسلام جَوهَر). لكنَّ شَغفَ المناضلةِ وفاء المنصوري بالقراءةِ والانكبابِ على المعارفِ والثقافةِ؛ حَفَزَهَا إلى أن تعملَ إداريةً بمؤهلٍ متوسطٍ في إدارةِ المكتباتِ العامةِ بالتربيةِ والتعليمِ، تعملُ وعيناهَا تمسحانِ سطورَ أيِّ كتابٍ يقعُ بينَ أنامِلِهَا، في: الأدبِ، والفنِّ، والفلسفةِ، والتاريخِ، واللغةِ…إلخ.
يرى الآخرونَ أنها تؤديَ عملاً روتينيًّا، لكنها في حقيقةِ الأمرِ، كانت تؤدي فروضَ القراءةِ التي تعشقُ، إنها السباحةُ في تضاعيفِ وأثناءِ كتابٍ جديدٍ. صارت القراءةُ مُتعَتَهَا التي لا يشارِكُهَا فيها مخلوقٌ قَطُّ. ولأنها المكافحةُ بشرفٍ في ميادينِ الحياةِ كافةْ، ولأنها امرأةٌ بَحرِيَّةٌ برتبةِ (جُندِيٍّ).
فلقد عادَ إلى (وفاءِ المنصوريِّ) حُلمٌ قديمٌ، باستكمالِ مسيرةِ التعليمِ الجامعيِّ؛ لتستوفيَ شوطًا جديدًا، من أشواطِ التزودِ مِنَ العلومِ والمعارفِ، ولاحت في الأفقِ فرصةُ الانتسابِ إلى الجامعةِ، في الوقتِ الذي نبتت في رَحِمِهَا بذورُ ابنِهَا الفنانِ الحبيبِ (إسلام)، وهوَ ثالثُ الثلاثةِ. إنهُ تَحَدٍّ إضافيٌّ، فما كانَ من المناضلةِ الجسورِ؛ إلا أن تَتَرَّسَت بالمِغفَرِ، وامتطتْ صهوةَ فرسِ الطُمُوحِ؛ لترى الدنيا بأسرِهَا، مَبلغَ ما تتمتعُ به المناضلةُ (وفاء المنصوري)، التي تنتشي برؤيةِ المصاعبِ؛ لأنها تُذَكِّرُهَا بدَورِهَا المنوطِ بِهَا.
تُذَكِّرُهَا بماضيَ التهجيرِ القسريِّ، إلى حاضرةِ (التِّبِّين)، تُذَكِّرُهَا أنها امرأةٌ بدرجةِ جُندِيٍّ. وَازَنَت، بمنتهى الإصرارِ، بينَ عَمَلِهَا إداريةً في المكتبةِ، ودراسَتِهَا بوصفِهَا طالبةً جامعيةً، ورعَايَتِهَا لمولُودِهَا الرضيعِ بوصفِهَا أُمًّا لهُ، وتَعلِيمِهَا لأَخَوَيهِ اللذينِ كانَا في المرحلةِ الإعداديةِ؛ فكان لزامًا عليهَا أن تَستَذكِرَ لَهُمَا دُرُوسَهُمَا، إضافةً إلى سَفَرِ الزوجِ الكريمِ، في أعباءِ عَمَلِهِ بالقواتِ المسلحةِ.
أعانَهَا المولى (سبحانَهُ وتعالى)، ثم أُمُّهَا الغَالِيَةُ؛ على السيرِ ثابتةَ الخُطَى، هادئةَ الوجدانِ، متقدةً ومشحونةً بذكرياتِ لَيلِ (التِّبِّين)، وصوتِ صافراتِ الإنذارِ بمحاذاةِ شاطيءِ بورسعيدَ، وهديرِ مروحياتِ الهليكوبترِ الإسرائيليةِ القذرةِ، تدنو من الرؤوسِ، والناسُ تهرولُ منزوعةً عنوةً من معشوقَتِهِم بورسعيدَ. وقتذاكَ؛ كانت وفاءُ تنظرُ في تحدٍ غريبٍ، إلى عيني طيارٍ إسرائيليٍّ معتوهٍ يسخرُ مِنَ المِصرِيينَ، كانت تنظرُ في تحدٍ لا يلينُ، وثباتٍ نادرِ الوجودِ.
تذكرت كُلَّ ذلكَ؛ فهانَ عَلَى الجُندِيِّ وَفَاء ثِقَلُ الحملِ، وتنوعُ الخُطُوبِ. حَصَلَت (وفاءُ المنصوريِّ) على بكالوريوسِ التجارةِ، من كليةِ التجارةِ، عامَ تسعة وتسعين وتسعمائةٍ وألف للميلادِ، بتميزٍ واضحٍ ومعتادٍ. وليسَ هذا فحسبُ، وإنما زادت من الشعرِ بيتًا، ومِنَ النضالِ موقعةً أخرى؛ فلقد حَصَلَت على ليسانسِ الآدابِ والتربيةِ، عامَ واحد وألفين للميلادِ. وبذلك؛ فقد انتقلت (وفاءُ المنصوريِّ) في مشوارِ عَمَلِهَا بالمكتباتِ، من الكادرِ الإداريِّ، إلى الكادرِ التربويِّ.
عَمِلَت بجدٍ واجتهادٍ مُعتَادَينِ مِنهَا، وذلكَ في مدارسِ بورسعيدَ كُلِّهَا، وأسست مكتباتٍ (تأسيسًا يليقُ بوعيِهَا المدرارِ، وعمقِ ثقافتِهَا، وميلِهَا الدائمِ إلى الابتكارِ). حصدت (وفاءُ المنصوريِّ) جوائزَ وتكريماتٍ لاَ آخرَ لَهَا؛ نَظِيرَ تَفَانِيهَا وإخلاصِهَا في تأديةِ رسالَتِهَا. ومن جُملةِ التكريماتِ المذكورةِ: تكريمٌ خاصٌّ مِن سيادةِ المحافظِ؛ بوصفِهَا (أفضلَ رائدةِ مكتبةٍ في بورسعيدَ)، إضافةً إلى سيلٍ من شِهَادَاتِ التقديرِ. ورُشِّحَت عامَ عشرةٍ وألفينِ للميلادِ، لنيلِ جائزةِ الأمِّ المثاليةِ (وهي بالفعلِ أمٌّ مثاليةٌ منذُ زواجِهَا إلى الآنْ). كما أنَّ إدارةَ التوجيهِ العامِّ، قد رَشَّحَتهَا (لثلاثِ دَورَاتٍ مُتَتَالِيَةٍ) للمشاركةِ في:
(مؤتمرِ القمةِ العربيِّ لسلامةِ مراكزِ المعلوماتِ)، الذي ينعقدُ سنويًّا في العاصمةِ. تدرجت (وَفَاءُ المنصوريِّ) في المناصبِ، من أخصائيةِ مكتبةٍ، إلى رئيسِ قسمٍ بإدارةِ شرقٍ التعليميةِ، وذلكَ لخمسِ سنواتٍ، ثُمَّ عادت إلى إدارةِ التوجيهِ العامِّ للمكتباتِ؛ بعدَ أن تمت تَرقِيَتُهَا إلى منصبِ مديرِ مراحلِ التعليمِ، ثُمَّ مديرِ عامٍ لمحافظةِ بورسعيدَ. أما عن مسيرةِ الأدبِ والإبداعِ في حياةِ (وفاءِ المنصوريِّ)، فلقد شَرَعَت (وَفَاءُ المنصوريِّ) تكتبُ الأغنيةَ الوطنيةَ، وبَرَعَت فِيهَا براعةً لاَ نظيرَ لَهَا؛ بِحُسبَانِهَا أَنَّ: الأغنيةَ الصادقةَ طلقةٌ نافذةٌ.
ثُمَّ لَمَّا هَدَأَ وطيسُ الحربِ، وفِي النصفِ الثانيَ مِنَ سَبعِينِيَّاتِ القرنِ الماضي؛ وَلَجَت إلى باحةِ الأغنيةِ العَاطِفِيةِ، وَأَبلَت فِيهَا بلاءً مُبدِعًا كَعَادَتِهَا، وَجَدِيرٌ بالذكرِ أنَّ نقولَ إنَّ الموسيقارَ البورسعيديَّ الكبيرَ: (أحمدَ العجميِّ)، قد لحنَّ جزءًا كبيرًا من أغانِيهَا، إضافةً إلى بِضعَةِ قصائدَ باللغةِ العربية الفصحى، ثم اتجهت (وفاءُ المنصوريِّ) صوبَ عالمِ قَصَصِ الأطفالِ، ولها مجموعةٌ قَصَصِيَّةٌ للأطفالِ، تحتَ الطبعِ، مَشحُونَةٌ بحبِهَا لهذا العالمِ البريءِ، وشاركت بجزءٍ مِنهَا في الصُّحُفِ القوميةِ، مِثلَ صحيفةِ الإهرامِ، والمجلاتِ المحليةِ والأدبيةِ ببورسعيدَ. وفاءُ المنصوريِّ كانت تدعمُ (منذُ البدايةِ) فنَّ المسرحِ، وتُفَعِّلُ الحَفلاَتِ المدرسيةَ؛ عبرَ كتابةِ أشعارٍ غنائيةٍ، وكان يُشرفُ عليهَا ويُشَجِّعُهَا عِملاقُ الأدبِ البورسعيديِّ، الأستاذُ: (سيدُ الخميسيِّ).
عَرَضَ عليها الشاعرُ البورسعيديُّ الكبيرُ: (مُحَمَّد البَنَّا) بيعَ أغانٍ لصالحِ الفنانِ العملاقِ: (عَليِّ الحَجَّارِ). لكنها (للأسفِ الشديدِ) رَفَضَت وَقتَذَاكَ.
جَهَّزَت (وَفَاءُ المَنصُورِيِّ) كِتَابَينِ للقصةِ القصيرةِ، دفعَت بهمَا إلى المطبعةِ، وهُمَا:
المجموعةُ القَصَصِيةُ المبدعةُ: (عرائس ونوارس)، طباعةُ دارِ الإسلامِ (ميتابوك حاليا). والمجموعةُ المذكورةُ مكونةٌ من عشرينَ قصةً قصيرةً، موزعةٌ في مائةِ ورقةٍ من القطعِ الصغيرِ.
المجموعةُ القَصَصِيةُ الراقيةُ: (عُرس السَّمَاءِ)، طباعةُ دارِ ديوانِ العربِ. والمجموعةُ مكونةٌ من إحدى وعشرينَ قصةً قصيرةً، تتوزعُ في أَبهَاءِ تسعينَ صفحةً من القطعِ الصغيرِ.
كانت تستعدُّ لمناقشةِ المجموعتينِ، اللتينِ تَحمِلاَنِ (هونًا مَا) ملامحَ متشابهةً في آلياتِ الكتابةِ السرديةِ. لكنَّ إرادةَ اللهِ (العليِّ القديرِ) حَالَت دونَ مناقشةِ المجموعتينِ؛ فلقد رُزِقَت (وفاءُ المنصوريِّ) بالمرضِ الخبيثِ، الذي دَاهَمَهَا بعنفٍ وشراسةٍ، منتصفَ عامِ تسعةَ عشرَ وألفينِ للميلادِ. لكنه لم يكن يعلمُ أنهُ قَد دَخَلَ إلى المَنطِقَةِ الخَطأِ؛ تَذكُرُونَ ما قلتُهُ لحضراتِكُم آنفًا… هيهاتَ هيهاتَ أن يستطيعَ النيلَ منها؛ ابتسمت له الجنديُّ وفاء، وتترست بالمغفرِ مرة أخرى، وامتطت صهوةَ الفَرَسِ؛ قائلةً: “يا أهلا بالمعارك”.
حتى انتصرت عليه (بفضلٍ منَ اللهِ العليِّ القديرِ)، وتعافت منه تمامًا، والحمدُ للهِ في بَدءٍ ومُختَتَمِ. ستظل (وفاءُ المنصوريِّ) تحلقُ في سماءِ الإبداعِ؛ طائرَ نَورَسٍ بمنتهى الروعةِ، لا يقوى على إتيانِهِ موجٌ، ولا تُبَاغِتُهُ ريحٌ عاتيةٌ… إنها (وفاءُ المنصوريِّ).
قد يهمك أيضا
موسوعة ادباء مصر.. الشاعرة/ مها أحمد